عودة إلى القيم: رحلة البحث عن الاعتبار في عصر المادية
بقلم: د, عدنان بوزان
في زمنٍ مضى، حيث كانت السماء تبدو أكثر اتساعاً والنجوم أكثر لمعاناً، كانت القيم تنبض في قلب المجتمع كنبض الحياة في الأرض الخصبة. في ذلك الزمان، كان المال، مع أنه كان محل تقدير، ليس إلا جزءاً من معادلة أكبر تحكم تقدير الإنسان واحترامه. كانت الشجاعة والحكمة والكرم والنزاهة تشكل أركان العزة والاحترام بين الناس. إنسان محروم من زخارف الثراء كان يستطيع أن يرفع رأسه عالياً، متوقعاً احتراماً وتقديراً مستمداً من جوهره ومن قيمه، لا من حجم ثروته.
أما اليوم، فقد تغير المشهد، وأصبحت القيم تُقاس بمقاييس مادية، والاعتبارات الأخلاقية تتلاشى أمام وهج الذهب وبريق الأشياء. تحول العالم إلى سوقٍ كبير، حيث تُعرض القيم للبيع والشراء، وأصبح الاحترام مرتبطاً بكثافة الثروة ولمعان المظاهر. في هذا العصر، يبدو أن الإنسان المحروم من الثراء يجد نفسه غارقاً في بحر من العدمية، حيث يصعب عليه حتى أن يجد احتراماً لذاته في مرآته الخاصة، إن لم يكن يعكس صورة تتوافق مع معايير النجاح المادي المتفق عليها اجتماعياً.
لكن، أليس من الغرابة أن يُقاس قدر الإنسان وقيمته بما يملك من الأشياء، وليس بما يحمل من الفضائل والمبادئ؟ أليس من العبث أن يُفقد الإنسان احترامه لذاته لمجرد عدم قدرته على تكديس الأموال وامتلاك الأشياء؟ في هذا العالم الجديد، حيث يُقاس النجاح بالمقاييس المادية، نجد أنفسنا أمام معضلة وجودية تهدد جوهر الإنسانية وتقوض أسس القيم الأخلاقية التي كانت لعقود طويلة محور الحياة الإنسانية.
لكن، وفي قلب هذا الزمان المتقلب، يظل هناك بصيص من الأمل في أولئك الذين يرفضون الخضوع لمعايير العصر الجديدة، ويصرون على قياس القيمة الإنسانية بمعايير أكثر عمقاً وجوهرية. هؤلاء الأفراد، الذين يعتزون بالفضيلة والمبدأ أكثر من اعتزازهم بالثروة والممتلكات، يشكلون جزراً من الضوء في بحر الظلام المادي. يسعون لبناء عالم يُعاد فيه تقدير الإنسان على أساس ما يسهم به في المجتمع من خير وعطاء وليس بمقدار ما يملك من أموال. في عزمهم وإصرارهم، تتجلى إمكانية ولادة نظام قيمي جديد، يُعيد للإنسانية بريقها ويستعيد الاعتبار والاحترام للفرد على أساس معانٍ أكثر أصالة وعمقاً.
من خلال العودة إلى هذه القيم، يمكن للمجتمعات أن تتحرر من قيود المادية الضيقة وأن تفتح أبواباً نحو فهم أعمق للحياة ومعناها. الاحترام والتقدير الذي نسعى إليه لن يأتي من كم الأشياء التي نملكها، بل من كيفية تأثيرنا الإيجابي في العالم من حولنا، من روح العطاء والمساهمة في رفاهية الآخرين، ومن قدرتنا على العيش بمبادئ تتجاوز الأنانية والجشع.
في هذا التحول، يكمن جوهر الحرية الحقيقية – حرية تتخطى القيود المادية لتسمح للإنسان بالتعبير عن أعظم ما فيه. إنها دعوة للتأمل في قيمنا وأهدافنا وللتساؤل عما إذا كان طريق السعادة والاحترام الذي نسلكه هو حقاً الطريق الذي نريد أن نتبعه.
لذا، في عصر السرعة والتغيير المستمر، يصبح من الضروري أكثر من أي وقت مضى أن نتوقف للحظة، وأن ننظر إلى داخلنا، وأن نتساءل عن معنى القيم التي نعيش من أجلها. هل نسعى حقاً للعيش في عالم يُقدّر الإنسان على أساس ما يملك، أم على أساس ما يكون؟ في الإجابة على هذا السؤال، قد نجد مفتاحاً لإعادة تشكيل مجتمعاتنا ولبناء مستقبل يحتفي بالإنسانية في أعظم وأنبل صورها.