بقلم: د. عدنان بوزان
مع مرور الوقت وتدحرج الأحداث في سوريا، يبدو أن الأزمة السورية قد دخلت في مرحلة جديدة بعد سقوط نظام الأسد، الذي كان يمثل أحد أطراف الحرب الرئيسية، لتشهد البلاد تحولاً دراماتيكياً نحو مرحلة أكثر تعقيداً. مرحلة ما بعد سقوط النظام شهدت صعوداً للمجموعات الجهادية، بقيادة أحمد الشرع المعروف بـ "أبو محمد الجولاني"، الذي تمكن من استغلال الفراغ الناتج عن انهيار السلطة المركزية لفرض سيطرته على مناطق واسعة من البلاد. وترافق ذلك مع تحولات في توازن القوى الإقليمية والدولية، ما أدى إلى استدامة الحرب الأهلية وتحول سوريا إلى ساحة صراع طويلة الأمد.
1- انهيار الدولة السورية: تفكك السلطة المركزية:
بعد سقوط النظام، انهارت سلطة الدولة السورية بشكل شبه كامل، وأصبح لمجموعات مسلحة متناحرة تأثير مباشر على مصير المناطق السورية. ومع صعود المجموعات الجهادية، مثل "هيئة تحرير الشام" بقيادة الجولاني، تحولت بعض المناطق إلى مراكز قوى مستقلة تسعى لتحقيق أهدافها الخاصة بعيداً عن أي سلطة مركزية. ووجدت بعض المناطق نفسها تحت سيطرة تنظيمات جهادية متشددة، في وقت لم يكن فيه أي طرف قادر على بسط سيطرته الكاملة على الأرض.
هذا التفكك الملموس لم يكن مجرد غياب للسلطة، بل كان انعداماً تاماً للقانون في العديد من المناطق، ما دفع بشعب سوريا نحو حالة من الفوضى التي أعادت تشكيل المشهد الاجتماعي والسياسي. التنظيمات الجهادية لم تقتصر على تنفيذ عمليات إرهابية، بل كانت تسعى أيضاً إلى تشكيل سلطات محلية موازية، محاكية للنظام الذي سقط.
2- صعود المجموعات الجهادية: ظهور "أبو محمد الجولاني" ومشاريع السلطة البديلة:
بمجرد أن سقط النظام في دمشق، بدأت المجموعات الجهادية تتسلح بفراغ السلطة، ليبرز "أبو محمد الجولاني" كمُرشد لمشروع سياسي وعسكري في شمال غرب سوريا. وعبر تحالفات مع فصائل إسلامية أخرى، تحولت هيئة تحرير الشام، بقيادته، إلى القوة المسيطرة في مناطق شاسعة من إدلب وما حولها. الجولاني لم يكن مجرد قائد ميداني، بل كان يمثل حالة من التحدي الفعلي أمام القوى الدولية التي كانت تسعى لإنهاء النزاع وفق مصالحها الخاصة.
لقد كانت مرحلة ما بعد سقوط الأسد بمثابة فرصة للجولاني لتحويل "تحرير الشام" إلى لاعب أساسي على الساحة السورية، ليس فقط عبر القوة العسكرية بل عبر ربط المجموعات الجهادية بمشروع سياسي يسعى لإقامة ما يسمى "دولة إسلامية" في قلب سوريا. وهذا المشروع، رغم انقسامه عن القوى الجهادية الأخرى مثل تنظيم داعش، كان لا يزال يشكل تهديداً وجودياً لأي محاولة لإعادة بناء دولة مركزية.
3- التحولات الإقليمية والدولية: التدخلات الأجنبية وتعدد الأجندات:
لم تتوقف التدخلات الخارجية عند حدود دعم أطراف الحرب السورية المختلفة، بل ازدادت تعقيداً بعد سقوط النظام. القوى الإقليمية والدولية، التي كانت قد لعبت دوراً محورياً في دعم أطراف معينة، تحول اهتمامها إلى محاولة إعادة ترتيب الأمور بما يتناسب مع مصالحها. روسيا، وإيران، والولايات المتحدة، وتركيا، كلها وجدت نفسها مضطرة للتدخل بشكل مباشر أو عبر حلفاء محليين، مما أدى إلى استمرار حالة الحرب الأهلية.
الوجود العسكري الروسي والإيراني في المناطق التي كانت تسيطر عليها الحكومة السابقة، من جهة، والحضور الأمريكي في مناطق الشمال الشرقي التي تسيطر عليها القوات الكوردية، من جهة أخرى، وتركيا تدعم المرتزقة ما تسمى الجيش الوطني في الشمال السوري، زاد من تعقيد المشهد العسكري والسياسي. وبينما كانت القوى الكبرى تسعى إلى تعزيز نفوذها، كانت المجموعات الجهادية بقيادة الجولاني تضغط أيضاً على الحدود الدولية لتحقيق مكاسب استراتيجية.
4- مرحلة التقسيم الفعلي: سوريا كدولة فاشلة:
مع تزايد قوة المجموعات الجهادية وتداعيات استمرار الحرب، بدأ يظهر أن سوريا قد تتحول إلى دولة فاشلة بالكامل، مقسمة إلى مناطق نفوذ تتنازعها القوى المتعددة. المناطق التي كانت تسيطر عليها الحكومة السابقة أصبحت الآن عرضة لتقسيم فعلي إلى كيانات شبه مستقلة، تتولى كل منها سلطات محلية ومجتمعية.
وبينما كانت هناك بعض المحاولات من قبل القوى الإقليمية والدولية لفرض تسويات سياسية، ظل الوضع في سوريا بعيداً عن الاستقرار. تم تقسيم البلاد إلى مناطق نفوذ روسية إيرانية، إسرائيلية، أمريكية، وتركية، بالإضافة إلى مناطق تسيطر عليها المجموعات الجهادية التي يسعى قادتها لإعادة رسم الخريطة الجغرافية والسياسية للبلاد بما يتناسب مع رؤاهم الأيديولوجية.
5- إعادة الإعمار: من سيتولى البناء؟:
حتى وإن كانت الحرب قد وصلت إلى مرحلة من التجميد النسبي في بعض المناطق، إلا أن ملف إعادة الإعمار يظل أحد أكبر التحديات التي تواجه سوريا في المستقبل. وتضاف إلى تلك التحديات حالة من التشرذم الاجتماعي والسياسي، إذ أن أي محاولة لإعادة بناء البنية التحتية للبلاد ستكون مشروطة بالترتيبات السياسية، والتي لم تجد حلولاً شاملة حتى الآن.
من جهة أخرى، فإن الدول الكبرى التي دعمت أطراف الحرب قد تطمح للاستفادة من عمليات الإعمار بما يخدم مصالحها الاقتصادية والسياسية. روسيا وإيران تسعيان إلى احتكار بعض المشاريع، في حين ترى الدول الغربية أي تمويل دولي مرتبطاً بتقدم في العملية السياسية التي لم تتحقق بعد.
6- السيناريوهات المستقبلية: من الحرب الأهلية إلى التسوية:
بناءً على هذه التحولات، يمكن تصور عدة سيناريوهات لمستقبل سوريا:
• استمرار الصراع والتفكك: في ظل حالة من الجمود العسكري والسياسي، قد تستمر سوريا كدولة مقسمة إلى مناطق نفوذ متمردة، تحت وطأة صراع طويل الأمد بين القوى المحلية والإقليمية.
• التقسيم الرسمي للدولة: إذا استمر التفكك الحالي، قد يتم فرض حل سياسي يكرّس تقسيم البلاد إلى كيانات جغرافية وإثنية متعددة، حيث تبقى بعض المناطق تحت حكم المجموعات الجهادية، في حين تسيطر القوى الإقليمية على أخرى.
• إعادة تشكيل الدولة السورية: السيناريو الأقل احتمالاً ولكنه ممكن في حال تغيرت المعادلات الإقليمية والدولية بشكل جذري، مما يسمح بعملية سياسية تعيد بناء سوريا على أسس جديدة من التوازنات المحلية والدولية.
في الختام، لقد شكلت الحرب الأهلية السورية أزمة فريدة من نوعها في تاريخ الحروب الأهلية، حيث أدى انهيار النظام إلى ظهور ملامح مرحلة جديدة من التشرذم الاجتماعي والسياسي. وبينما تتعدد السيناريوهات المستقبلية، تظل سوريا على مفترق طرق، إذ يمكن أن تسير نحو تقسيم دائم أو إعادة بناء معقدة، في ظل تناقض المصالح الدولية والخلافات المحلية. وفي النهاية، لن تكون العودة إلى الاستقرار إلا عبر حوار شامل يأخذ بعين الاعتبار تعقيدات الأزمة السورية، ويعيد التفكير في مفهوم الدولة الوطنية ضمن واقع جديد، تفرضه التحولات التي أحدثتها الحرب الأهلية.