بقلم: د. عدنان بوزان
ما الذي يجعل الإنسان أكثر افتراساً من الأسد، وأكثر خيانةً من الذئب، وأكثر قذارةً من الضبع الذي يتغذى على الجيف؟ ليس الجوع وحده، ولا الرغبة الجنسية، ولا حتى الصراع من أجل البقاء؛ بل ما هو أعمق: القدرة على اختراع الشر، والتفنّن في إعادة إنتاجه، وتغليفه بأقنعة القانون، والأخلاق، والتمدّن.
الحيوانات الأخرى لا تعرف الخيانة، لا تطعن في الظهر، ولا تقتل إلا بدافع غريزي صرف، مرتبط ببقائها الجسدي أو تكاثرها البيولوجي. الأسد لا يفتك من أجل اللهو، ولا يقتل من أجل فكرة. الذئب لا يختلق سرديات أيديولوجية لتبرير ذبح القطيع. حتى الضباع، في وحشيتها، لا تخرج عن قوانين الطبيعة، بل تخضع لما نسميه بـ"شريعة الغاب"— وهي، وإن كانت قاسية، فإنها أرحم من شرائع الإنسان.
أما الإنسان؟ فهو الكائن الوحيد الذي يبني مقصلة باسم العدالة، ويشعل حرباً باسم السلام، ويطرد شعباً من أرضه باسم الوطن. إنه الكائن الذي يستطيع أن يقتل وهو يبتسم، أن يدمر وهو يرتل الصلوات، أن يغتصب وهو يكتب الشعر عن الحب.
الإنسان لا يخضع لغريزة واحدة، بل هو تجمّع غرائز متضاربة، هائجة، مفككة. كل وحش مفترس في الطبيعة يملك غريزة واحدة محددة، لها هدف واضح ونهائي. أما الإنسان، فيحمل داخله الذئب والأسد والضبع والعقرب والثعبان، ولا يكتفي بحدود الجسد، بل يضيف إليها العقل، واللغة، والرمز، مما يمنحه القدرة على تسويغ شروره، وتبرير جرائمه، وتسويقها كفضائل.
في الإنسان، لا يلتهم القويُّ الضعيف فحسب، بل يصنع لنفسه مسرحاً درامياً لتلك العملية: يكتب عنها، يُروّجها، يُؤسطرها، ثم يُدرّسها لأطفاله بوصفها منجزاً حضارياً. إنه الكائن الوحيد الذي يقتل التاريخ أولاً، ثم يعيد كتابته كما يشاء، فيجعل من الجلاد بطلاً، ومن الضحية إرهابياً.
الحرب، تلك المسرحية الدموية التي يتقن الإنسان إخراجها، ليست لحظة جنون، بل تجلٍّ لماهيته الأصلية. فهو لا يشن الحرب فقط بدافع الجوع أو الدفاع عن النفس، بل بدافع العقيدة، والشرف، والكبرياء، والرب، والنفط، والتفوّق العرقي... وكلها مبررات لا يفقهها أي كائن آخر. الكائنات الأخرى تقتل لتعيش، أما الإنسان فيقتل ليقنع نفسه بأن لوجوده رسالة، وأن لمجونه غاية، ولمجونه قداسة.
الأسد، حين يفترس، لا يكتب بياناً سياسياً. الذئب، حين يهجم، لا يعقد مؤتمرات صحفية. أما الإنسان، فحين يقصف مدينة، يصدر تقريراً إنسانياً مرفقاً بصور الضحايا، وينشره على وسائل التواصل تحت وسم: "من أجل عالمٍ أفضل".
وهكذا، لم يكن الإنسان "كائناً عاقلاً"، كما أحب أن يسمّي نفسه، بل "كائناً مفرطاً في الجنون"، لأنه يمتلك العقل لا ليُروّض وحشيته، بل ليُتقنها ويُجمّلها ويُبررها. في الإنسان، تحوّل العقل من أداة للتفكير إلى آلة لصناعة الرعب، وتحولت اللغة من وسيلة للتواصل إلى ستار يُخفي خلفه أبشع أشكال الوحشية.
فهل الإنسان حيوان؟ لا، بل هو خيانة الحيوان. الحيوان لا يُخفي أنيابه، لا يتنكر في قناع. أما الإنسان، فيعيش في مسرح التنكّر، يغلّف وحشيته بالقانون، وجرائمه بالأخلاق، ومجونه بالمقدّس. ولذلك، فهو أقذر من كل الحيوانات، لأنه الوحيد الذي قتل براءته بيده، ثم غطّى جثّتها بعَلم وطنه.