كلمة اليوم: هيمنة القوة وتلاشي المبادئ: عالم تحكمه المصالح لا القوانين
- Super User
- كلمة اليوم
- الزيارات: 1451
بقلم: د. عدنان بوزان
في ظل التحولات العميقة التي يشهدها العالم اليوم، تتكشف بوضوح معادلات القوة التي لطالما حكمت العلاقات الدولية، حيث لم يعد القانون الدولي، ولا المبادئ الأخلاقية، ولا المواثيق التي تتغنى بها القوى الكبرى سوى أدوات خطابية تُستخدم وقت الحاجة، ثم تُهمَل عندما تتعارض مع المصالح الاستراتيجية. المشهد السياسي الراهن يبرهن، بلا أدنى شك، على أن منطق القوة لا يزال المتحكم الأول في صياغة السياسات الدولية، وأن الدول الضعيفة، مهما تلقت من دعم أو وعود، تظل في نهاية المطاف عرضة لمصالح القوى الكبرى، التي لا تتردد في استخدام أي وسيلة لتحقيق أهدافها.
ما نشهده اليوم من أزمات ممتدة في مناطق مختلفة من العالم، سواء في أوكرانيا، أو الشرق الأوسط، أو المحيط الهادئ، ليس إلا انعكاساً لهذه القاعدة التاريخية التي تؤكد أن القوى الكبرى لا تتعامل مع القضايا من منطلق المبادئ، وإنما وفقاً لحسابات المصالح. فالدول الضعيفة تُترك لمصيرها حينما تتغير الأولويات، وتُدعَم فقط عندما يتوافق وجودها مع الأجندات الاستراتيجية للقوى الفاعلة. الحرب في أوكرانيا هي أحد أبرز النماذج على هذه الحقيقة، حيث تخلى الغرب عن التزاماته السياسية والأمنية تجاه كييف، رغم التعهدات المسبقة، مكتفياً بمساعدات لم تغيّر التوازنات الميدانية، في حين أن القوى الكبرى تواصل استخدام الصراعات كأوراق ضغط متبادلة لتحقيق مصالحها.
ولا يختلف الأمر كثيراً في مناطق أخرى من العالم، وعلى رأسها قضية الشعب الكوردي، حيث تتحكم المصالح الاستراتيجية في سياسات القوى الكبرى، فتجدها تدعم أنظمة في مكان، وتسعى إلى تغيير أخرى في مكان آخر، دون أي اعتبار لمفاهيم السيادة أو حقوق الإنسان التي تدّعي الدفاع عنها. في الشرق الأوسط، على سبيل المثال، تستمر التدخلات الخارجية التي جعلت من المنطقة ساحة مفتوحة للتجاذبات الجيوسياسية، حيث يتم توظيف الأزمات الداخلية، وتأجيج النزاعات، وإعادة صياغة التحالفات بما يخدم رؤية القوى الكبرى، بينما تتحمل شعوب المنطقة وحدها تبعات هذه السياسات.
الأمم المتحدة، التي كان يُفترض أن تكون الضامن الحقيقي للأمن الدولي، أثبتت عبر العقود الماضية عجزها التام عن لعب دور فاعل عندما يتعلق الأمر بالصراعات التي تتداخل فيها مصالح القوى الكبرى. فمجلس الأمن، الذي يضم الدول الخمس دائمة العضوية، ليس سوى أداة لحماية نفوذ هذه الدول، حيث تستطيع أي منها تعطيل أي قرار لا يخدم مصالحها عبر استخدام حق النقض (الفيتو). هذا الواقع جعل المنظمة الدولية مجرد شاهد عاجز أمام انتهاكات متعددة، بدءاً من الاحتلالات المباشرة، مروراً بالحروب الأهلية، وصولاً إلى التدخلات العسكرية التي تمارسها القوى الكبرى تحت ذرائع متعددة، من محاربة الإرهاب إلى نشر الديمقراطية.
في ظل هذا المناخ الدولي القائم على ازدواجية المعايير، تبرز الحاجة الملحة لدى الدول غير المنخرطة في التحالفات الكبرى إلى إعادة النظر في استراتيجياتها الأمنية والدفاعية. فالرهان على الحماية الخارجية أثبت فشله، والاعتماد على المعاهدات والضمانات الدولية لا يوفر أماناً حقيقياً. وحدها الدول التي تمتلك قوة ذاتية—عسكرية واقتصادية وسياسية—هي التي تستطيع حماية سيادتها وفرض شروطها في المعادلات الإقليمية والدولية. وهذا ما تدركه جيداً القوى الصاعدة التي تسعى إلى بناء قدراتها المستقلة بعيداً عن التبعية لأي طرف، في محاولة لتجنب مصير الدول التي وجدت نفسها وحيدة عند اللحظة الحاسمة.
من الواضح أن النظام الدولي الحالي يمر بمرحلة تحولات كبرى، حيث تتراجع الهيمنة الأحادية التي فرضتها الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة، وتبرز قوى جديدة تعيد رسم ملامح المشهد العالمي. في هذا السياق، تشهد العلاقات الدولية إعادة تشكيل للتحالفات، حيث تسعى بعض الدول إلى تعزيز تعاونها مع قوى مثل الصين وروسيا في مواجهة النفوذ الأمريكي والغربي، بينما تتجه دول أخرى نحو سياسات أكثر استقلالية لضمان عدم الوقوع في فخ الهيمنة المطلقة لأي طرف.
كل هذه المتغيرات تؤكد أن العالم يسير نحو نظام أكثر تعقيداً، حيث لم يعد هناك طرف واحد قادر على فرض أجندته دون مقاومة، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن النظام الجديد سيكون أكثر عدالة. فالقوى الصاعدة، بدورها، تسير وفق منطق القوة، وتسعى إلى تحقيق مصالحها بأي وسيلة، ما يجعل الدول الضعيفة أمام تحدٍ مضاعف: إما أن تبني قوتها الذاتية لتفرض مكانتها، أو تبقى رهينة لعبة المصالح التي لا ترحم، حيث لا مكان للضعفاء في عالم يحكمه الأقوياء.