كلمة اليوم: سوريا بين الانهيار والتقسيم: صراع هويات وتحولات جهادية تهدد المنطقة
- Super User
- كلمة اليوم
- الزيارات: 632
بقلم: د. عدنان بوزان
الوضع السوري الحالي يشكل حلقة جديدة في مأساة طويلة لم تنتهِ، حيث يعكس تحولاً عميقاً في المشهدين السياسي والعسكري بعد انهيار النظام البعثي الذي حكم البلاد لعقود. سقوط هذا النظام، الذي كان يُعد العمود الفقري لهيكلة الدولة السورية، لم يكن ببساطة نهاية لحكم حزب واحد، بل كان بداية مرحلة جديدة تميزت بالصراع على السلطة وتفكك الدولة السورية إلى مناطق نفوذ متصارعة. في ظل هذا الواقع المعقد، ظهرت قوى جهادية متشددة تسعى للاستيلاء على السلطة وفرض أيديولوجياتها المتطرفة على الأرض، في مقدمتها "هيئة تحرير الشام" بقيادة أبو محمد الجولاني، الذي كان في وقت من الأوقات جزءاً من تنظيم القاعدة. ومع مرور الوقت، قام بتحويل نفسه إلى لاعب رئيسي في الصراع السوري، حيث تحول "الجهاد" إلى أداة للسيطرة على مناطق معينة.
ما يحدث اليوم في سوريا من قتل للأطفال والنساء والشيوخ من الطائفة العلوية في الساحل السوري على يد فصائل إسلاموية جهادية يقودها الجولاني وغيره من الجماعات، هو نتاج طبيعي لصراع طائفي متصاعد يأخذ طابعاً أكثر تعقيداً وتوحشاً. بينما كان النظام البعثي قد مارس سيطرة قمعية على الشعب السوري على مدار عقود، فإن الجماعات التي تحارب فلول النظام اليوم، خاصة تلك التي تحت راية الجهاد، قد تبنت أساليب وحشية مشابهة بل وأكثر دموية.
يشير التصعيد الأخير إلى تداخل عاملين رئيسيين:
الأول هو الانقسام الطائفي الذي أصبح أحد المحركات الأساسية للنزاع السوري، حيث تسعى الجماعات الجهادية إلى فرض نوع من السلطة "الطائفية" عبر إيديولوجيات متشددة تستهدف الأقليات في سوريا، خصوصاً العلويين.
ثانياً، هو تغلغل القوى الأجنبية في الصراع، حيث تلعب هذه القوى دوراً في تأجيج الصراع بالوكالة عبر دعم جماعات معينة على حساب أخرى.
إن الأيديولوجية الجهادية التي يتبناها أبو محمد الجولاني وجماعته تحاول تمثيل أنفسهم كحماة للشعب السوري من "الطاغوت" المتمثل في النظام البعثي السابق، إلا أن أفعالهم على الأرض تتناقض مع هذا الخطاب تماماً. إن قتل الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ في مناطق الساحل سوريا وغيرها من المناطق المأهولة بالعائلات العلوية لا يعد محاربة للنظام بقدر ما هو استهداف لمكونات المجتمع السوري على أساس طائفي، مما يعكس الفشل الكبير في بناء فكرة وطنية شاملة تتجاوز الانقسامات العرقية والدينية.
من جانب آخر، يمكن النظر إلى هذا التصعيد في السياق الأوسع للمنطقة، حيث يشكل الصراع السوري حلقة في سلسلة أزمات واسعة تشهدها المنطقة، من العراق إلى لبنان، وحتى مناطق أخرى، مع تداخل المصالح الإقليمية والدولية، وخصوصاً بعد الانسحاب الأمريكي من بعض المواقع وتدخلات إيران وتركيا. هذه التدخلات لا تقتصر على تزويد الأطراف المختلفة بالأسلحة والمال، بل تشمل أيضاً الدعم الأيديولوجي والسياسي، مما يجعل من الصراع السوري نموذجاً حياً للاستخدام المفرط للعنف لتحقيق أهداف سياسية عبر وكلاء محليين.
عند النظر لهذا الوضع تتجاوز الاعتبارات العسكرية البسيطة، حيث تكمن الكارثة في ما يحدث من تجذر للعداء الطائفي والعرقي. الصراع في سوريا أصبح يشبه "صراع الهويات"، وهو صراع لا يمكن حله بالأساليب التقليدية أو حتى من خلال الانتصار العسكري لأحد الأطراف. ببساطة، لا يمكن تصور "العودة إلى الوراء"، بمعنى العودة إلى الدولة السورية الموحدة تحت أي نظام قد يكون قادراً على التعامل مع هذا الانقسام العميق بين الطوائف والمجموعات المتناحرة.
إذا كان هنالك أي أمل في الحل، فإنه يكمن في العودة إلى فكرة المصالحة الوطنية، التي للأسف تبدو بعيدة جداً في الوقت الحالي، في ظل تنامي قوة الفصائل الجهادية التي لا تنفك تستخدم القتل والدمار وسيلة لتحقيق طموحاتها السياسية. وبالتالي، فإن أي خطاب يتبنى فكرة الانتصار للطائفة أو الفريق العسكري على الآخر قد يؤدي إلى نتيجة كارثية: تقسيم دائم للبلاد، وحروب متواصلة لا تنتهي، وتفاقم لمشاكل اللجوء، وغياب للأمن والاستقرار في كل أنحاء المنطقة.
إن ما يحدث اليوم في سوريا هو تحوّل مؤلم في التوازنات السياسية والطائفية داخل المجتمع السوري، وهو يؤكد حقيقة أن الصراع لا يمكن أن يُختزل في حرب بين "النظام" و"المعارضة"، بل هو صراع طويل الأمد بين قوى متعددة: طائفية، قومية، وإيديولوجية، حيث تشتبك جميعها لتحقيق أهداف قصيرة وطويلة المدى تتجاوز مجرد استبدال حاكم بآخر، لتصل إلى حلم طائفي أو أيديولوجي لا يتوقف عند حدود سوريا، بل يهدد استقرار المنطقة ككل.