بقلم: د. عدنان بوزان
بعد عقود من الحكم البعثي في سوريا، جاء سقوطه ليفتح الباب أمام تغييرات جذرية في المشهد السياسي. في ظل هذا الفراغ، برزت الحركات الإسلامية كقوة سياسية بديلة، مدفوعة بسنوات من القمع والتهميش. لكن وصول الإسلاميين إلى السلطة لا يعني بالضرورة تحقيق الاستقرار، بل يطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل التعددية، وإمكانية التعايش بين مختلف المكونات الدينية والعرقية، ومسار الدولة في ظل تحديات داخلية وإقليمية معقدة. فهل سيكون النظام الجديد قادراً على تحقيق التوازن بين الهوية الإسلامية ومتطلبات التعددية، أم أن سوريا ستواجه دورة جديدة من الصراعات والانقسامات؟
تمهيد: من الاستبداد إلى الإسلاموية
بعد عقود من الحكم البعثي الاستبدادي في سوريا، حيث تركزت السلطة في يد النخب العسكرية والأمنية، تفكك النظام بفعل عوامل داخلية وخارجية. في أعقاب هذا الانهيار، وجدت التيارات الإسلامية—التي لطالما تعرضت للقمع والإقصاء—فرصةً للظهور كقوة بديلة تملأ الفراغ السياسي. غير أن هذا الانتقال لم يكن مجرد استبدال نظام بآخر، بل كان بمثابة إعادة تشكيل شاملة لهوية الدولة والمجتمع في ظل متغيرات داخلية وإقليمية ودولية.
الإسلاموية والسلطة: بين الأيديولوجيا والواقع السياسي
إن وصول الإسلاميين إلى السلطة في سوريا يفتح الباب أمام عدة سيناريوهات محتملة، أبرزها:
1- النموذج المحافظ المعتدل: يسعى إلى دمج الإسلام في السياسة بشكل مرن، مع الاحتفاظ ببعض مظاهر التعددية، شبيهاً بتجربة حزب العدالة والتنمية التركي في بداياته.
2- النموذج الراديكالي: تتحول سوريا إلى دولة إسلامية على غرار إيران أو أفغانستان تحت حكم طالبان، مع فرض تفسير متشدد للشريعة الإسلامية.
3- النموذج البراغماتي: يجمع بين الهوية الإسلامية والتفاعل مع القوى الدولية، محاولاً تحقيق توازن بين العقيدة والمصالح السياسية والاقتصادية.
لكن بغض النظر عن النموذج الذي سيتبناه الإسلاميون، فإن وجودهم في السلطة سيطرح تحديات سياسية كبرى، خاصة فيما يتعلق بإدارة التنوع الطائفي والقومي في سوريا.
مصير الأقليات: بين القلق والمقاومة
تمثل الأقليات الدينية والعرقية—كالعلويين والمسيحيين والدروز والإيزيديين والكورد وغيرهم—حجر الزاوية في التحديات السياسية والاجتماعية المقبلة. ومع سقوط النظام البعثي، الذي استند إلى تحالفات أقلوية للحفاظ على السلطة، ستواجه هذه الأقليات وضعاً مضطرباً يتجلى في:
1- الخشية من التهميش والانتقام: قد تعتبر بعض الفصائل الإسلامية الأقليات، ولا سيما العلويين، امتداداً للنظام السابق، مما يعرضهم للاضطهاد أو التهجير.
2- إعادة تشكيل الهوية الوطنية: سيحتاج الإسلاميون إلى إعادة تعريف الهوية السورية لتشمل أو تستثني الأقليات، وهو ما قد يؤدي إما إلى تصاعد النزعة الطائفية أو إلى حلول توافقية تتطلب تنازلات من جميع الأطراف.
3- البحث عن حمايات دولية: قد تلجأ الأقليات إلى دعم دولي لحماية مصالحها، كما حدث مع الكورد في مراحل متعددة، مما قد يؤدي إلى تدخلات خارجية تزيد من تعقيد المشهد السياسي.
المشهد السياسي المستقبلي: بين الصراع والاستقرار
لا يمكن تصور مستقبل سوريا بعد سقوط البعث وصعود الإسلاموية بمعزل عن التأثيرات الإقليمية والدولية. وعليه، يمكن رسم عدة سيناريوهات محتملة:
1- سيناريو الصراع الداخلي المستمر: في حال عدم قدرة الإسلاميين على استيعاب التعددية أو إصرارهم على فرض نموذج حكم إقصائي، فقد تنزلق البلاد إلى حالة من الفوضى والحرب الأهلية المستمرة، مع مقاومة الأقليات وبعض القوى العلمانية والمدنية.
2- سيناريو الفيدرالية أو التقسيم الفعلي: مع تعذر التعايش بين مختلف المكونات، قد تتجه سوريا نحو نماذج من الحكم الذاتي للأقاليم، حيث تحتفظ كل منطقة بخصوصياتها، مما قد يؤدي إلى نشوء كيان فيدرالي أو حتى تقسيم فعلي للدولة.
3- سيناريو الاحتواء والانتقال التدريجي: إذا نجحت القوى الإسلامية في تقديم نموذج حكم أكثر انفتاحاً وبراغماتية، فقد تتمكن سوريا من دخول مرحلة جديدة من الاستقرار، لكن هذا سيتطلب تحولات داخلية عميقة في بنية الفكر السياسي الإسلامي وقدرته على القبول بالتعددية.
الخاتمة: سوريا بين الهويات المتصارعة والتوازن الممكن
يبقى مستقبل سوريا رهيناً بالكيفية التي ستتعامل بها السلطة الإسلامية الجديدة مع التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فإذا تبنى الإسلاميون نموذجاً قمعياً، فإن البلاد ستظل ساحة للصراعات الإقليمية والمحلية. أما إذا استطاعوا بناء نموذج توافقي يعترف بالتعددية ويحافظ على الحد الأدنى من الحقوق والمواطنة المتساوية، فقد يكون هناك أمل في تحقيق استقرار طويل الأمد.
إن سوريا بعد سقوط البعث لن تكون كما كانت قبله، والمجتمع السوري أمام تحدٍّ تاريخي لإعادة تشكيل دولته وفق معادلات جديدة. يبقى السؤال: هل ستُبنى هذه الدولة على أسس توافقية تستوعب الجميع، أم على إقصاء سيؤدي إلى دورات أخرى من العنف والانهيار؟