بوادر حرب إسرائيلية وشيكة على سوريا
بقلم: د. عدنان بوزان
تُظهر التطورات الأخيرة على الحدود الإسرائيلية السورية بوادر تصعيد عسكري وشيك قد يقود إلى حرب مفتوحة. تشير التقارير إلى قيام إسرائيل بتفجير ألغام قديمة داخل مناطق منزوعة السلاح، واختراقها لمناطق محظورة قرب الحدود السورية. هذه التحركات العسكرية تعكس تحولاً ملحوظاً في النهج الإسرائيلي تجاه سوريا، وتؤكد على وجود استعدادات إسرائيلية لاحتمالية مواجهة عسكرية جديدة.
إسرائيل، التي تنظر بقلق متزايد إلى الوجود الإيراني في سوريا ودعمها المستمر لحزب الله، تعتبر سوريا مسرحاً متقدماً للصراع الإقليمي. وجود القوات الإيرانية والمليشيات الموالية لها بالقرب من حدود الجولان يزيد من حدة المخاوف الأمنية الإسرائيلية. هذا الأمر يفسر التحركات العسكرية الإسرائيلية المتصاعدة، والتي قد تكون جزءاً من استراتيجية شاملة للتصدي لأي تهديدات مباشرة من الأراضي السورية.
إضافة إلى ذلك، فإن الوضع الجيوسياسي العام في الشرق الأوسط يشهد توترات متزايدة على عدة جبهات، سواء بسبب تعقيدات النزاع السوري الداخلي أو بسبب التحالفات الإقليمية المتغيرة. فقد استفادت إسرائيل في السنوات الأخيرة من حالة الفوضى في سوريا لتوسيع نشاطاتها العسكرية الاستخباراتية، وضرب أهداف تابعة لإيران وحزب الله، بدعوى أنها تحركات دفاعية استباقية لصد أي محاولات لفتح جبهة جديدة ضدها.
لكن، إلى جانب هذا التبرير الأمني، هناك بعدٌ آخر يتعلق بالحسابات السياسية الإسرائيلية الداخلية. فالقيادة الإسرائيلية، في ظل الانقسامات السياسية الداخلية والتوترات الاجتماعية، تسعى في كثير من الأحيان إلى تصعيد المواجهات الخارجية لتعزيز تماسك الجبهة الداخلية. فالتاريخ يشير إلى أن استخدام "التهديد الخارجي" كوسيلة لتوحيد الرأي العام ودعم القرارات السياسية كان سمة رئيسية في الاستراتيجيات الإسرائيلية، خصوصاً خلال أوقات الأزمات.
كما أن تفجير الألغام القديمة داخل المناطق منزوعة السلاح يعتبر خرقاً مباشراً للاتفاقيات الدولية المتعلقة بالجولان، ويشكل رسالة واضحة من إسرائيل بأنها لا تعترف بأي قيود على نشاطاتها العسكرية في هذه المنطقة. هذا التصعيد قد يستدعي ردود فعل دبلوماسية وسياسية قوية من قبل المجتمع الدولي، خصوصاً أن المنطقة المنزوعة السلاح هي جزء من ترتيبات وقف إطلاق النار التي وُضعت بعد حرب 1973. إسرائيل، بخرقها لهذه الترتيبات، تضع نفسها في مواجهة ليس فقط مع سوريا بل أيضاً مع المنظمات الدولية التي تشرف على تطبيق هذه الاتفاقيات.
ما يزيد من خطورة الوضع هو الانهيار المستمر للنظام السوري، الذي يعاني من ضعف اقتصادي شديد وضغوط داخلية وخارجية. هذا الضعف يجعل النظام أقل قدرة على الرد على التحركات الإسرائيلية، سواء بشكل عسكري أو دبلوماسي. لكن في الوقت نفسه، يمكن لهذا الضعف أن يؤدي إلى رد فعل متهور من النظام، خصوصاً إذا شعر بأن التحركات الإسرائيلية تهدد وجوده بشكل مباشر.
أيضاً، لا يمكن فصل هذه التطورات عن السياق الأوسع للعلاقات الإسرائيلية-الإيرانية. فإسرائيل تعتبر إيران التهديد الأول لأمنها، وترى في التواجد الإيراني في سوريا خطراً استراتيجياً يجب التصدي له بأي ثمن. التحركات الإسرائيلية الأخيرة قد تكون جزءاً من استراتيجية أوسع تهدف إلى دفع إيران خارج سوريا أو على الأقل تقليص نفوذها هناك. وهذا الهدف يبدو أنه يلقى دعماً من حلفاء إسرائيل في الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة، التي ترى بدورها في النفوذ الإيراني تهديداً لمصالحها في المنطقة.
في ظل هذا التصعيد، فإن احتمالات الحرب تبدو كبيرة، خصوصاً مع غياب أي مبادرات دبلوماسية حقيقية لتهدئة التوترات. فالتحركات العسكرية الإسرائيلية قد تستمر وتتوسع، خصوصاً إذا شعرت القيادة الإسرائيلية بأنها تمتلك تفويضاً ضمنياً من المجتمع الدولي للتصرف بحرية في سوريا. من جهة أخرى، فإن النظام السوري، الذي يعاني من أزمات متعددة، قد يجد نفسه مجبراً على الرد بشكل أو بآخر، مما سيؤدي إلى اندلاع مواجهة قد تكون شاملة.
ومع ذلك، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن الحرب، رغم كل هذه المؤشرات، ليست بالضرورة الخيار الوحيد على الطاولة. فقد تكون هذه التحركات الإسرائيلية تهدف إلى إرسال رسائل ضغط متعددة الأطراف، سواء للنظام السوري أو لإيران، بهدف تحصيل مكاسب سياسية أو عسكرية دون الانجرار إلى صراع شامل.
من الممكن أن تكون التحركات الإسرائيلية الأخيرة جزءاً من استراتيجية للضغط المتعدد الاتجاهات، حيث تعمل إسرائيل على تحييد التهديدات التي تواجهها على الحدود الشمالية مع سوريا، دون السعي بالضرورة إلى الدخول في حرب مفتوحة. في هذا السياق، تُعتبر التحركات الإسرائيلية في المناطق منزوعة السلاح، مثل تفجير الألغام القديمة، إشارة قوية لدمشق ولحلفائها، وعلى رأسهم إيران، بأن إسرائيل لن تتوانى عن التصرف لحماية مصالحها الأمنية.
كما أن هذا التصعيد قد يكون مرتبطاً بالتطورات الدولية المحيطة بالملف السوري. فمع تراجع الاهتمام الدولي بسوريا وترك البلاد في حالة من الجمود السياسي، قد ترى إسرائيل في هذا الوضع فرصة لتعزيز نفوذها العسكري في المناطق الحدودية، خصوصاً في ظل تشتت النظام السوري وضعف الدعم الدولي له. هذا الواقع يعطي لإسرائيل حرية أكبر للتحرك، سواء من خلال توجيه ضربات دقيقة لأهداف عسكرية داخل سوريا أو من خلال تعزيز سيطرتها في مناطق النزاع المتاخمة للجولان.
القيادة الإسرائيلية قد تستفيد أيضاً من هذه التحركات في سياقها الداخلي، فالأزمات السياسية التي تعصف بالحكومة الإسرائيلية، والتي تشمل احتجاجات متزايدة وتصدعات داخل الأحزاب السياسية، قد تجعل من التصعيد الخارجي وسيلة لالتفاف الرأي العام الإسرائيلي حول القيادة. فغالباً ما تكون التحركات العسكرية وسيلة لإشغال الداخل عن القضايا السياسية الداخلية، مما يُمكّن الحكومة من تعزيز موقفها في مواجهة المعارضة أو الأصوات الناقدة.
من ناحية أخرى، يُطرح السؤال حول ردود الفعل المحتملة من الجانب السوري. على الرغم من ضعف النظام السوري وانشغاله بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية، إلا أن هذا لا يعني أن دمشق ستبقى مكتوفة الأيدي. قد تلجأ القيادة السورية إلى رد فعل محدود، سواء عبر وكلاء مثل حزب الله أو المليشيات المدعومة من إيران، وذلك لتجنب حرب شاملة مع إسرائيل، بينما تسعى في الوقت نفسه إلى إرسال رسالة مفادها أن سوريا ليست عاجزة تماماً عن الرد.
في هذا السياق، يجب ألا نغفل دور إيران وحزب الله في هذه المعادلة. فإيران، التي تسعى إلى الحفاظ على نفوذها في سوريا كجزء من استراتيجيتها الإقليمية، لن تقبل بسهولة بتقليص هذا النفوذ. التحركات الإسرائيلية الأخيرة قد تُفسر من قبل طهران كتهديد مباشر لمصالحها، مما قد يؤدي إلى تصعيد غير مباشر عبر دعم أكبر لحلفائها في سوريا ولبنان. حزب الله بدوره قد يجد نفسه مضطراً للرد، إما عبر عمليات محدودة ضد أهداف إسرائيلية أو من خلال تصعيد التوتر على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، وهو ما سيضع المنطقة بأكملها على حافة الانفجار.
إضافة إلى ذلك، يجب النظر إلى موقف روسيا، الحليف الرئيسي للنظام السوري. روسيا، التي لعبت دوراً حاسماً في بقاء النظام السوري منذ بداية الحرب، قد تجد نفسها في موقف حرج. فهي من جهة تسعى للحفاظ على توازن علاقاتها مع إسرائيل، ومن جهة أخرى لا ترغب في رؤية تآكل نفوذها في سوريا. هذا التوازن الدقيق قد يجعل روسيا تلعب دوراً في تهدئة التوترات، أو على الأقل الحد من التصعيد المباشر بين إسرائيل وسوريا.
من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل الأبعاد الاقتصادية لهذا التصعيد. سوريا التي تعاني من انهيار اقتصادي حاد، مع تدهور قيمة العملة المحلية وارتفاع معدلات الفقر، قد تجد نفسها في موقف أصعب إذا ما دخلت في صراع جديد مع إسرائيل. فالاقتصاد السوري، الذي يعتمد بشكل كبير على المساعدات الخارجية والدعم الروسي والإيراني، لن يتحمل حرباً جديدة، مما قد يؤدي إلى زيادة الأعباء على النظام ويزيد من معاناة الشعب السوري.
في المقابل، هناك مؤشرات على أن إسرائيل قد تلجأ إلى ضربات استباقية موسعة إذا ما شعرت بأن الوقت بات مناسباً للتخلص من التهديدات المتواجدة على حدودها الشمالية. فهي تدرك أن أي تواجد إيراني أو تعزيز لقوات حزب الله بالقرب من حدود الجولان يمثل خطراً استراتيجياً لا يمكن تجاهله. الضربات الجوية الإسرائيلية المتكررة في الداخل السوري قد تكون خطوة أولى ضمن حملة أوسع لتقليص نفوذ إيران في سوريا، وقد تشمل هذه الحملة تصعيداً برياً إذا ما تطورت الأمور بشكل دراماتيكي.
لكن، كما هو الحال في أي نزاع إقليمي، تبقى العوامل غير المتوقعة قائمة. فاندلاع الحرب قد لا يكون نتيجة قرار إسرائيلي أو سوري مباشر، بل قد يحدث نتيجة خطأ في الحسابات أو حادثة عرضية تؤدي إلى تصاعد التوتر بشكل لا يمكن السيطرة عليه. فالمنطقة تعج بالتعقيدات العسكرية والسياسية، والعديد من الأطراف المتداخلة قد تسهم في دفع الأمور نحو الصراع دون أن يكون ذلك ضمن خططهم الأصلية.
من الصعب التنبؤ بمآل هذه التطورات، لكن ما يبدو واضحاً هو أن المنطقة تقف على أعتاب مرحلة جديدة من التوترات التي قد تؤدي إلى اندلاع مواجهة بين إسرائيل وسوريا. وفي ظل غياب الحلول الدبلوماسية والضغوط الدولية الجادة لتهدئة الأوضاع، تبقى احتمالات الحرب قائمة، خصوصاً مع تعمق التوترات الإقليمية والدولية المحيطة بالأزمة السورية. في النهاية، قد تكون هذه التحركات جزءاً من صراع إقليمي أوسع نطاقاً بين القوى الكبرى في المنطقة، حيث تسعى كل جهة إلى تعزيز نفوذها على حساب الأخرى، مما قد يجعل سوريا ساحة لتصفية حسابات إقليمية ودولية جديدة.