الشرق الأوسط: نحو الانهيار الحتمي؟

بقلم: د. عدنان بوزان

هل ستشرب دول المنطقة من الكأس المرير الذي شربت منه سوريا؟

تشهد منطقة الشرق الأوسط تقلبات سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة منذ عقود، مع تسارع وتيرة الأحداث بشكل غير مسبوق خلال العقد الأخير. المنطقة بأسرها تعيش على حافة الهاوية في ظل أزمات هيكلية شديدة التعقيد، حيث يبدو أن معظم الدول في هذه المنطقة تسير في اتجاهات قد تؤدي بها إلى الانهيار، على غرار التجربة السورية. إن سوريا، التي كانت حتى عام 2011 دولة مستقرة نسبياً، تحولت بفعل مزيج من الفوضى السياسية والصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية إلى دولة ممزقة. من هنا، يطرح السؤال الأكثر إلحاحاً: هل دول المنطقة الأخرى، بما في ذلك تركيا، معرضة للسقوط على نفس النمط؟ وهل الشعوب في هذه الدول ستتذوق ذات الكأس المرير الذي تجرعته سوريا؟

منذ عقود طويلة، والمنطقة العربية، بما في ذلك دول الشرق الأوسط غير العربية، تشهد تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية كبرى لا تكاد تتوقف. وقد تزايدت هذه التحولات بشكل كبير خلال العقد الأخير، حتى أصبحت المنطقة تعيش على بركان من التوترات والصراعات المتداخلة التي لا تنفك تهدد استقرار الدول واحدة تلو الأخرى. في قلب هذه الصراعات، تبرز التجربة السورية كمثال حي وملموس لما يمكن أن يحدث لدولة كانت تعتبر حتى فترة قريبة نسبياً مستقرة نسبياً، فإذا بها تتحول بين ليلة وضحاها إلى ساحة حرب مفتوحة، اجتذبت تدخلات دولية وإقليمية، وزرعت الفوضى في كل شبر من أراضيها.

الأمر لا يتوقف عند سوريا وحدها، فالتشابهات بين الوضع السوري وحالات أخرى في المنطقة تلفت الأنظار إلى احتمالية أن تكون سوريا مجرد بداية لموجة من الانهيارات القادمة. العديد من الدول العربية، مثل العراق ولبنان وليبيا واليمن، تعيش أوضاعاً مشابهة من حيث الأزمات الداخلية المزمنة، التي تشتمل على انقسامات طائفية وعرقية، فساد متجذر، وفقر متفاقم. كل هذه العوامل تجعل من تلك الدول ساحة خصبة لاضطرابات قد تؤدي بها إلى السيناريو نفسه الذي عاشته سوريا.

لكن ماذا عن الدول غير العربية في المنطقة؟ تركيا، على وجه الخصوص، تمثل حالة خاصة تستحق الدراسة. فهي تواجه أزمة داخلية تتفاقم بمرور الوقت، وتتمحور حول الصراع المستمر بين الحكومة التركية والكورد. هذه الأزمة ليست جديدة، لكنها اشتدت مع مرور السنوات، وزادت حدتها بعد اندلاع الحرب السورية، حيث تجد تركيا نفسها اليوم أمام تحديات معقدة تهدد استقرارها الداخلي.

ما يزيد الوضع تعقيداً هو تداخل العوامل الداخلية مع تدخلات خارجية متواصلة، سواء من القوى الإقليمية أو الدولية، والتي تسعى كل منها لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب استقرار الدول. التدخلات الدولية في النزاعات المحلية، كما شهدنا في سوريا، لا تؤدي غالباً إلى حلول بل إلى تعقيد أكبر، وربما دفع الدول إلى حافة الانهيار.

الأزمات التي تجتاح المنطقة، سواء كانت سياسية، اقتصادية، أو حتى بيئية مثل شح المياه، كلها تشترك في عوامل تجعل من استقرار الدول مسألة وقت فقط قبل أن تهتز. الفشل في معالجة هذه الأزمات من جذورها، أو الاعتماد على حلول ترقيعية مؤقتة، لا يؤدي إلا إلى تأجيل السقوط المحتوم. وعلى هذا النحو، تبدو معظم دول المنطقة وكأنها تسير بخطى حثيثة نحو مصير يشبه ما عاشته سوريا، حيث سيشرب الجميع في نهاية المطاف من ذات الكأس المرير الذي تجرعته سوريا على مدار أكثر من عقد من الزمان.

في ظل هذه التطورات المتسارعة، يبرز التساؤل حول مصير المنطقة برمتها: هل ستتمكن هذه الدول من تجنب الانهيار عبر الإصلاحات العميقة والجذرية؟ أم أن المنطقة بأسرها على وشك أن تدخل في دوامة من الفوضى والصراعات التي لا مخرج منها، على غرار ما حدث في سوريا؟

- الأسباب المشتركة بين دول المنطقة نحو السقوط

1- غياب العدالة الاجتماعية والاقتصادية: تعتبر العدالة الاجتماعية والاقتصادية الأساس لأي استقرار سياسي، ولكن معظم دول الشرق الأوسط تعاني من فجوات شاسعة بين الطبقات الاجتماعية. الفقر المدقع مقابل الثروات الهائلة التي تستأثر بها النخب السياسية والاقتصادية، يولد حالة من الغضب الشعبي. الفشل في إعادة توزيع الثروة أو تحقيق تنمية اقتصادية عادلة في دول مثل مصر ولبنان والعراق يجعل الأرض خصبة لاندلاع اضطرابات شعبية مشابهة لما حدث في سوريا. في سوريا، كانت الأوضاع الاقتصادية الصعبة والفساد المستشري بين النخب أحد العوامل المحورية في تأجيج الثورة الشعبية التي انطلقت في 2011.

2- الاستبداد والقمع السياسي: الاستبداد هو سمة شائعة في معظم الأنظمة الحاكمة في الشرق الأوسط. النظم التي تعتمد على القوة والقمع لإسكات الأصوات المعارضة تفقد شرعيتها بمرور الوقت. هذا القمع يُشعل الرغبة في التغيير لدى الشعوب التي تجد في الثورة أو النزاع المسلح الخيار الوحيد لاستعادة حقوقها. في سوريا، بدأ الأمر بمطالب بسيطة بالإصلاح السياسي، لكن الرد العنيف من النظام قاد البلاد إلى حروب مدمرة. الدول الأخرى في المنطقة قد تواجه سيناريو مشابهاً، خاصة إذا استمرت الأنظمة في تجاهل مطالب شعوبها.

3- التوترات الطائفية والعرقية: الانقسامات الطائفية والعرقية في الشرق الأوسط لا تزال مصدراً رئيسياً للفوضى. في سوريا، كانت الانقسامات بين السنة والعلويين وبين العرب والكورد عاملاً محورياً في تعقيد الصراع. في العراق، التوترات بين الشيعة والسنة وبين العرب والكورد، وفي لبنان الانقسامات الطائفية، تشكل قنابل موقوتة قد تنفجر في أي لحظة. تركيا ليست بمنأى عن هذه الانقسامات، حيث يشكل الصراع بين الدولة التركية والكورد تحدياً وجودياً للدولة.

4- التدخلات الخارجية: التدخلات الخارجية تزيد من تعقيد الأزمات الداخلية في دول الشرق الأوسط. سوريا مثال واضح على هذا، حيث تدخلت العديد من القوى الدولية، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا، مما جعل الصراع السوري يتجاوز حدود الدولة ليصبح نزاعاً دولياً. التدخلات العسكرية والسياسية التي تسعى إلى تحقيق مصالح خارجية قد تؤدي إلى تفتيت الدول بدلاً من استقرارها. هذا السيناريو يتكرر في دول أخرى مثل العراق وليبيا واليمن وغيرها، حيث تتداخل مصالح القوى الإقليمية والدولية مع الصراعات المحلية.

5- الأزمات الاقتصادية والتغيرات المناخية: التغيرات المناخية، مثل نقص المياه والجفاف، إضافة إلى الأزمات الاقتصادية، تساهم في زيادة التوترات الداخلية. الدول التي تعتمد بشكل أساسي على النفط، مثل السعودية ودول الخليج، تواجه تحديات تتعلق بالتغيرات في أسواق الطاقة العالمية، مما قد يؤثر على استقرارها الاقتصادي في المستقبل. مصر، على سبيل المثال، تواجه أزمة مياه حادة بسبب بناء سد النهضة في إثيوبيا، مما قد يؤدي إلى تفاقم التوترات الداخلية.

- تركيا: غليان الصراع الكوردي-التركي

تركيا، وهي دولة إقليمية كبرى، تواجه بدورها أزمة داخلية كبرى تتعلق بالصراع بين الحكومة التركية والكورد، والذي يعود لعقود طويلة. الصراع الكوردي- التركي ليس جديداً، لكنه يشهد تصعيداً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، مما يجعل تركيا عرضة لاضطرابات داخلية قد تؤدي إلى زعزعة استقرارها على المدى الطويل.

1- الصراع التاريخي وتداعياته: منذ تأسيس الجمهورية التركية في عام 1923، سعت الحكومات المتعاقبة إلى قمع الهوية الكوردية، ما أدى إلى نزاع طويل مع الكورد، خاصة مع بروز حزب العمال كقوة مسلحة. هذا الصراع تفاقم مع مرور الزمن وأدى إلى سقوط عشرات الآلاف من القتلى، مما خلق حالة من العداء المستمر بين الدولة التركية والكورد.

2- سياسات القمع والتهميش: على الرغم من بعض المحاولات للإصلاح والتفاوض مع الكورد، إلا أن الحكومة التركية عادت في السنوات الأخيرة إلى سياسات أكثر تشدداً تجاه المناطق الكوردية، حيث يتم قمع الأحزاب الكوردية وحظر الأنشطة السياسية التي تعبر عن الطموحات الكوردية. هذا القمع يزيد من حدة الاحتقان الداخلي ويعزز من احتمالات تصاعد الصراع المسلح مرة أخرى.

3- تأثير الحرب السورية على الصراع التركي- الكوردي: ساهمت الحرب في سوريا في تأجيج الصراع الكوردي- التركي. بعد أن تمكنت الجماعات الكوردية في شمال سوريا من السيطرة على مناطق واسعة تحت قيادة قوات سوريا الديمقراطية، اعتبرت تركيا هذه المكاسب تهديداً لأمنها القومي. التدخل التركي في سوريا كان يهدف بشكل أساسي إلى منع إقامة كيان كوردي مستقل على حدودها الجنوبية. هذا التدخل أدى إلى تعقيد العلاقات بين تركيا والكورد داخل وخارج حدودها.

4- التحالفات الدولية وتداعياتها: التحالف الأمريكي مع القوات الكوردية في سوريا ساهم في تعميق التوترات بين تركيا والغرب، وخلق بيئة من عدم الثقة بين الجانبين. تركيا، التي تعتبر حليفاً استراتيجياً في حلف الناتو، أصبحت في موقف معقد، حيث ترى في الدعم الغربي للكورد تهديداً مباشراً لأمنها واستقرارها. هذا الصراع الجيوسياسي يزيد من تعقيد الأزمة الكوردية ويضع تركيا في موقف حرج، قد يؤدي إلى زعزعة استقرارها الداخلي.

5- الاقتصاد التركي والتوترات الداخلية: تركيا تعاني أيضاً من أزمات اقتصادية متزايدة، مثل ارتفاع معدلات التضخم وتراجع قيمة الليرة التركية، مما أدى إلى تنامي الاستياء الشعبي تجاه الحكومة. الأزمات الاقتصادية تزيد من حدة التوترات الاجتماعية والسياسية، ويمكن أن تكون عاملاً إضافياً في تفجير الوضع الداخلي.

الخاتمة: الكأس المرير

في الختام، يمكن القول إن منطقة الشرق الأوسط تواجه خطراً حقيقياً يتمثل في انهيار العديد من دولها إذا لم يتم اتخاذ إصلاحات جذرية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. سوريا كانت البداية، ولكن التجربة السورية ليست استثناءً، بل قد تكون نموذجاً يتكرر في دول أخرى مثل تركيا والعراق ولبنان وحتى مصر. الجميع في هذه المنطقة قد يضطرون إلى تذوق نفس الكأس المرير الذي شرب منه السوريون، إلا إذا تم اتخاذ خطوات جدية نحو بناء مجتمعات أكثر عدالة وديمقراطية واحتراماً للتنوع العرقي والطائفي والسياسي.

أضف تعليق


كود امني
تحديث

X

تحذير

لا يمكن النسخ!