بين الحمار الديمقراطي والفيل الجمهوري: صراع الأنظمة ومأزق الشعوب
بقلم: د. عدنان بوزان
في عالمنا اليوم، يواجه البشر، بما فيهم شعوب الشرق الأوسط، أزمة وجودية حقيقية تتجلى في صراع هائل بين نماذج سياسية متناقضة، تتراوح بين "الحمار الديمقراطي" و"الفيل الجمهوري"، كما لو أننا نتنقل بين خيارين لا يوفران لنا سوى الوهم. ولكن، في محاكاة منطقية لوجودنا المعاصر، ينبغي لنا أن نبحث في حقيقة هذا الصراع الذي أصبح يشكل هويتنا السياسية. نحتاج أن نبحث في معاني الديمقراطية والجمهورية في سياقنا، وهل هذه الشعارات تمثل فعلاً الطريق الأمثل لنا، أم أنها مجرد أدوات للقوى الكبرى لإدامة الهيمنة والتسلط؟
في عالم معاصر يتشابك فيه الاقتصاد والسياسة والمجتمع في شبكة معقدة من المصالح المتبادلة، نجد أنفسنا أمام مفارقة تاريخية وفكرية عميقة تتجسد في صراع مستمر بين مفهومي الديمقراطية والجمهورية، في صورتهما المعاصرة. وفي ظل هذا الصراع الذي يعصف بالعالم، نحن الشعوب في الأرض، وخاصة في الشرق الأوسط، لا نزال نعيش حالة من الضياع السياسي والفكري. نحن ضائعون بين هذين النموذجين المتناقضين: "الحمار الديمقراطي" و"الفيل الجمهوري". قد تبدو هذه الصورة مبالغاً فيها أو ساخرة، لكنها في الواقع تلخص أزمة حقيقية تعيشها البشرية اليوم، وهي أزمة النظام السياسي الذي يجسد الوعود المثالية للشعوب بينما يحقق في واقع الأمر مصالح قوى عظمى تخدم السلطة والرأسمالية العالمية.
تتجلى هذه الأزمة في محاكاة مؤلمة لواقعنا السياسي المعاصر، حيث نشهد كيف أن الديمقراطيات الغربية، التي يُفترض بها أن تعكس إرادة الشعوب وتحقيق العدالة والمساواة، قد تحولت إلى أدوات للهيمنة الاقتصادية، وفي بعض الحالات، العسكرية. هذا التحول أفرز صراعاً بين النخب الحاكمة والمجتمعات التي تظل رهينة لشعارات براقة مثل "الحرية" و"المساواة"، التي سرعان ما تتآكل قيمها عندما تصبح مرهونة بالمصالح الاقتصادية. من جانب آخر، لا يختلف النظام الجمهوري، الذي يروج له اليمين السياسي الغربي، عن الديمقراطية إلا في الأشكال؛ حيث يسعى للتركيز على حماية مصالح النخبة الحاكمة، مستخدماً أدوات القمع والسيطرة السياسية. في هذا السياق، يعبر "الحمار الديمقراطي" و"الفيل الجمهوري" عن نفاق الأنظمة التي تبدي نفسها كحامية للعدالة، بينما تمارس في الخفاء أشكالاً من الاستبداد والهيمنة.
في هذه المقدمة، سنغوص في تحليل هذا الصراع الذي لا يقتصر على الصراع بين الأحزاب السياسية الغربية فقط، بل يمتد ليشمل فئات واسعة من الشعوب في مختلف أنحاء العالم، الذين يقعون ضحايا لهذا الصراع الأيديولوجي الذي يغذي مصالح قوى هيمنة عالمية. الشعوب في الشرق الأوسط، التي أُشبعت بالوعود البراقة من الأنظمة الديمقراطية والجمهورية، تجد نفسها في كثير من الأحيان محاصرة في شبكة من الأكاذيب السياسية، تُستخدَم شعارات "الديمقراطية" و"الحرية" لتبرير الاحتلالات العسكرية وتوسعات القوى العظمى على حساب حقوق الإنسان.
وبينما تدور معركة المصالح في الغرب، وبينما تتساقط الشعارات الديمقراطية في ظل ضغوط سياسية واقتصادية هائلة، تظل الشعوب في الشرق الأوسط تبحث عن طريقة للخروج من هذه الدوامة السياسية التي لا توفر لها سوى السراب. فقد فرضت الأنظمة الحاكمة على شعوبها نماذج سياسية هي بعيدة كل البعد عن الحرية الحقيقية والمساواة الفعلية. من هذا المنطلق، يتطلب الواقع السياسي الراهن التفكير في بدائل حقيقية للنظامين الديمقراطي والجمهوري؛ فالشعوب بحاجة إلى نموذج سياسي جديد يتجاوز الهيمنة العالمية ويقوم على أسس عادلة ومستدامة تُعطي الشعوب حقها في تقرير مصيرها بعيداً عن الضغوط الخارجية.
الحديث عن "الحمار الديمقراطي" و"الفيل الجمهوري" ليس مجرد تسميات عابرة أو سخرية سطحية، بل هو تعبير عن حالة ضياع سياسي شديد تعيشه الشعوب التي تسعى لتحقيق العدالة والحرية في عالم تتنازعه المصالح الدولية. وعليه، من الضروري أن نعيد التفكير في النظم التي نعيش تحت ظلها، وأن نبحث عن نموذج جديد من النظام السياسي الذي يعتمد على العدالة والمساواة الحقيقية، ويضع مصالح الشعوب في أولوياته بعيداً عن أنماط الهيمنة التقليدية التي أظهرتها الأنظمة الحاكمة في العالمين الغربي والعربي.
أولاً: الحمار الديمقراطي: الوهم البرّاق
في البداية، لا بد من التساؤل: هل الديمقراطية فعلاً تمثل حلاً للشعوب التواقة إلى الحرية والعدالة؟ في السياقات الغربية، ارتبطت الديمقراطية بالفكرة المثالية، حيث يُفترض أن جميع المواطنين يشتركون في اتخاذ القرارات السياسية التي تؤثر على حياتهم. إلا أن الواقع يقول عكس ذلك؛ فالديمقراطية في صورها الحالية، وخصوصاً في الدول الغربية، قد أصبحت أكثر أداة لخدمة المصالح الاقتصادية للقوى الكبرى منها وسيلة لتطبيق العدالة السياسية.
الديمقراطية الغربية، التي بدأت كفكرة نبيلة تقوم على الحرية والمساواة، تتعرض اليوم لضغوط كبيرة بسبب التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدها العالم. ففي أمريكا على سبيل المثال، أصبح النظام السياسي مرتهناً لتمويل الحملات الانتخابية، مما يسمح للمال بالتأثير على نتائج الانتخابات، وبالتالي يحول التصويت الشعبي إلى مجرد إجراء شكلي. في ظل هذه المعادلة، تصبح الديمقراطية مجرد واجهة يُتلاعب بها لتبقى الأنظمة السياسية متماسكة، مما يسمح للقوى الرأسمالية بالحفاظ على سيطرتها.
إذا أخذنا المثال الأمريكي، نجد أن "الحمار الديمقراطي" قد تحول إلى مجرّد أداة لصالح طبقة معينة. ففي النظام الحزبي، حيث يقف الديمقراطيون والجمهوريون في موقفين متقابلين، لا يتوقف الأمر عند الاختلافات الإيديولوجية، بل يتجاوزها إلى ما هو أعمق: الاحتفاظ بالسلطة ومواردها. الديمقراطيون، رغم محاولاتهم الظهور كحاملي لواء حقوق الإنسان والمساواة، يتورطون في السياسات التي تعزز الهيمنة الاقتصادية والتوسع العسكري، مما يجعل الشعب ضحية لأنظمة تهدف في النهاية إلى تحقيق مصالح ضيقة.
في العديد من الأنظمة السياسية المعاصرة، وخصوصاً في الدول الغربية، تُعرض الديمقراطية كأداة أساسية لتحقيق الحرية والمساواة، مما يخلق انطباعاً عاماً بأنها الحل الأمثل للتحديات السياسية والاجتماعية. لكن، عندما نغوص في الواقع، نجد أن الديمقراطية، التي كانت في البداية فكرة نبيلة تهدف إلى تمكين الشعوب من المشاركة الفعالة في اتخاذ القرارات التي تؤثر في حياتهم، قد تحولت إلى مجرد "وهم برّاق". تُروج الديمقراطية الغربية باعتبارها النظام الذي يضمن حقوق الإنسان والمساواة، لكن الحقيقة أنها أصبحت وسيلة لخدمة مصالح القوى الكبرى والطبقات الحاكمة، التي تستغل النظام السياسي لتحقيق مصالحها الخاصة.
على الرغم من أن الديمقراطية تمنح الحق في التصويت، إلا أن هذا الحق في العديد من الحالات يصبح شكلياً، حيث يتم التلاعب به من خلال الضغوط الاقتصادية والمالية. في الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، أصبح النظام السياسي مرتهنًا بالتمويل الهائل للحملات الانتخابية، مما يفتح الباب للمال ليؤثر بشكل كبير في نتائج الانتخابات. هنا، لا يُعتبر التصويت تعبيراً حقيقياً عن إرادة الشعب، بل يصبح أداة تضمن استمرار الأنظمة السياسية التي تخدم المصالح الرأسمالية والاقتصادية للطبقات المتنفذة.
الديمقراطية، التي كان يُفترض بها أن تكون أداة لتحرير الشعوب من الاستبداد، أصبحت بدلاً من ذلك أداة لإدامة الهيمنة على تلك الشعوب. ففي معظم الحالات، تحولت النخب السياسية في الديمقراطيات الغربية إلى أداة تنفيذية لقوى المال والتجارة، التي تستخدم السياسة لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب طبقات المجتمع الأخرى.
إذا نظرنا إلى الحمار الديمقراطي في سياق الأنظمة الحزبية، نجد أن الصراع بين الأحزاب السياسية لا يقتصر على الاختلافات الإيديولوجية، بل يعكس في كثير من الأحيان صراعاً على السلطة والموارد. على سبيل المثال، في الولايات المتحدة، رغم التفريق بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري في الأيديولوجيا، إلا أن كليهما يعملان ضمن نفس النظام الذي يسعى إلى الحفاظ على الهيمنة السياسية والاقتصادية لمصلحة نخبة محددة. وهكذا، نجد أن "الحمار الديمقراطي" الذي يروج للعدالة والمساواة في النهاية لا يقدم للشعوب سوى الشكل البراق لنظام سياسي يبقى بعيداً عن تحقيق أي تقدم حقيقي في قضايا الحرية والعدالة.
ثانياً: الفيل الجمهوري: النظام المستبد في ثوب جديد
على الطرف الآخر من المعادلة، يبرز "الفيل الجمهوري"، الذي يمثل النظام الجمهوري الذي يرتكز على احتكار السلطة لصالح النخبة الحاكمة. في أنظمة مثل تلك التي نشهدها في الولايات المتحدة الأمريكية، نجد أن الجمهوريين لا يختلفون عن الديمقراطيين في جوهر عملهم: الحفاظ على النظام الرأسمالي وتعزيز الهيمنة العسكرية والسياسية. الجمهوريون يقدمون أنفسهم كدعاة للنظام التقليدي، ولكنهم لا يتورعون عن استخدام نفس الأدوات القمعية والاستبدادية التي يستخدمها الآخرون. سواء كانوا في السلطة أو في المعارضة، تبقى القيم الأساسية التي يتحركون وفقها واحدة: السيطرة على الموارد وتوسيع دائرة الهيمنة على المستوى العالمي.
الفيل الجمهوري في هذا السياق لا يحمل خصائص مغايرة للحمار الديمقراطي؛ حيث إن كلاً منهما في النهاية يخدم الطبقة الحاكمة نفسها. الجمهوريون يعملون على تعزيز الانقسام الاجتماعي والسياسي عن طريق تقسيم المجتمع إلى فئات متناحرة: البيض مقابل السود، المتدينون ضد الملحدين، الموالون ضد المعارضين. وبذلك، يصبح المجتمع أسيراً في لعبة الكراسي الموسيقية السياسية التي لا تؤدي إلى تغيير حقيقي أو تقدم.
على الجانب الآخر من المعادلة، يقف "الفيل الجمهوري"، الذي يمثل نموذجاً آخر من الأنظمة السياسية التي تُروج لنفسها باعتبارها حامية للنظام التقليدي والمبادئ الثابتة. ومع ذلك، لا يُعتبر هذا النظام بديلاً حقيقياً عن "الحمار الديمقراطي"، بل هو في جوهره استمرار لنفس الهيمنة السياسية والاقتصادية التي تُقيد الشعوب وتفصلها عن ممارسة حقيقية للحرية. في الأنظمة التي تتبنى النهج الجمهوري، لا يتم تقديم نموذج الحكم على أنه وسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية أو المساواة، بل يُروج له على أنه الحل من خلال توازنات سياسية موجهة لخدمة النخب الحاكمة.
في الواقع، ليس النظام الجمهوري في الولايات المتحدة - أو أي نظام مشابه في الغرب - مختلفاً في جوهره عن النظام الديمقراطي. كلاهما يخدم نفس الطبقات الحاكمة التي تدير السلطة وتتحكم في الموارد. فعلى الرغم من أن الجمهوريين يقدّمون أنفسهم كمناصرين للثوابت والمبادئ التقليدية، إلا أن ممارساتهم السياسية تكشف عن استخدام نفس الأدوات القمعية التي تمارسها الديمقراطيات الغربية. تحت شعار حماية الأمن القومي، يتم استخدام القوة العسكرية والنفوذ السياسي لإدامة الهيمنة الأمريكية في العالم.
الفرق بين الديمقراطيين والجمهوريين، إذا وُجد، يكمن في الطريقة التي يتعامل بها كل طرف مع الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية. فالجمهوريون يميلون إلى تعزيز الفوارق الطبقية وتعميق التباين بين الفئات المختلفة في المجتمع. ففي الخطاب الجمهوري، يتم استثمار التوترات الاجتماعية والعرقية والدينية كأساس لتأجيج الانقسامات الداخلية. يُسهم هذا التقسيم في دفع المجتمع الأمريكي، مثلاً، نحو تصنيفات حادة: الأبيض ضد الأسود، المتدين ضد الملحد، الأغنياء ضد الفقراء. وبذلك، يتم استغلال هذه الفروق لصالح النظام القائم، الذي يستمر في الحفاظ على مصالح فئات معينة من النخب الحاكمة.
على الرغم من أن الجمهوريين يدّعون أنهم المدافعون عن القيم التقليدية والأخلاقية، فإن الواقع السياسي الذي يرونه مثالياً يتطلب الهيمنة على الآخرين وتوسيع دائرة السيطرة على الموارد، سواء داخل الولايات المتحدة أو على الساحة العالمية. "الفيل الجمهوري"، في هذا السياق، لا يختلف عن "الحمار الديمقراطي" إلا في أدواته: كل منهما يساهم في الحفاظ على نفس النظام الرأسمالي الذي يواصل إقصاء الشعوب عن حقوقها الأساسية في الحرية والعدالة.
في النهاية، يتضح أن "الفيل الجمهوري" هو مجرد نظام مستبد في ثوب جديد، يهدف إلى تعزيز السيطرة على المجتمع دون تقديم أي تغيير جوهري يُذكر. وبينما يُروج كلا النظامين – الديمقراطي والجمهوري – لحماية الحريات، فإن الحقيقة أن كليهما يساهم في المحافظة على الهيمنة الاقتصادية والعسكرية التي تضمن بقاء النخب الحاكمة في السلطة.
ثالثاً: النتيجة: الشعوب في ضياع
وبينما تزداد الفجوة بين النخب الحاكمة والجماهير في الغرب، نجد أن الشعوب في العالم بأسره تجد نفسها محاصرة بين هذه القوى. فالشعوب التي تحتفل بما يُسمى "الديمقراطية" في الدول الغربية تصبح، من حيث الجوهر، مجرد أدوات لتثبيت النظام الحالي. وفي العالم العربي، نجد أن الأنظمة الدكتاتورية تستخدم نفس الوعود لتحافظ على وجودها، بينما تُستخدم شعارات الحرية والديمقراطية لتبرير قمعها.
نحن كأمم في الشرق الأوسط وبلدان أخرى، أصبحنا أسيرين لهذه اللعبة الكبرى التي تهيمن فيها القوى العظمى تحت رايات الديمقراطية والجمهورية. ورغم أننا نعرف جيداً أن هذه النظم لا تقدم لنا سوى السراب، لا تزال الفكرة السائدة أن الشعوب في هذه الدول "اختارت" هذا الطريق. الحقيقة أن الشعوب لا تختار شيئاً، بل يتم دفعها إلى مصير مفروض من الخارج. فبينما يدور الصراع بين الديمقراطيين والجمهوريين، يبقى المواطن البسيط ضائعاً، عالقاً في دوامة من الوعود التي لا تتحقق.
بين "الحمار الديمقراطي" و"الفيل الجمهوري"، تكمن مأساة الشعوب في كل مكان، خصوصاً في الشرق الأوسط والمناطق التي تعيش تحت وطأة الأنظمة الاستبدادية. ففي ظل هذا الصراع بين النظامين، يجد المواطن العادي نفسه ضائعاً، غير قادر على التمييز بين ما يُقدّم له من وعود وهمية وحلول مزعومة. الديمقراطيات الغربية، التي يُروج لها كملاذ لتحقيق الحرية والمساواة، تظل مجرد واجهة تستتر خلفها مصالح القوى الكبرى، بينما الأنظمة الجمهورية، التي تتنكر في صورة الحفاظ على النظام التقليدي، تواصل فرض سيطرتها على المجتمع باستخدام نفس الآليات الاستبدادية.
الشعوب، التي يُفترض أن تكون صاحبة القرار في الأنظمة الديمقراطية، تجد نفسها محاصرة بين معادلة مزعومة بين الحرية والاستبداد، بين ديمقراطية الشكل وجمهورية الجوهر. ورغم أنه يتم تقديم "الديمقراطية" باعتبارها الحل الأمثل، فإن الواقع يشير إلى أن هذه الأنظمة لا تتجاوز كونها أدوات لتكريس السلطة للطبقات الحاكمة، التي تمسك بالمال والنفوذ وتفرض هيمنتها على المجتمعات. في الديمقراطيات الغربية، حيث يُفترض أن يكون للشعوب الحق في الاختيار والمشاركة الفعالة في صنع القرار، تُمحى إرادة المواطن تحت ضغط المال والسياسات الاقتصادية التي تضمن استمرار السيطرة.
أما في الشرق الأوسط والعالم العربي، حيث تغيب الديمقراطية الغربية وتغلب الأنظمة الاستبدادية، نجد أن الشعوب مُجبرة على العيش تحت أنظمة تسعى إلى الحفاظ على هيمنتها من خلال استخدام شعارات الحرية والديمقراطية كغطاء لقمعها. وفي هذا السياق، تُستخدم نفس الأساليب في ترويج الأنظمة الاستبدادية، تحت شعار "الحفاظ على الأمن" أو "الدفاع عن القيم التقليدية"، بينما تزداد الفجوة بين النخب الحاكمة والجماهير.
بذلك، يُعتبر المواطن في هذه الأنظمة رهينة بين قوى متصارعة لا تملك إلا مصالحها الضيقة. الشعوب ليست فقط ضائعة بين الفروقات الظاهرة بين الديمقراطية والجمهورية، بل هي ضحية لهذا الصراع الذي لا يضع مصالحها في أولوياته. في النهاية، نجد أن الديمقراطية الغربية تظل مجرد قناع خادع يُستخدم لتبرير هيمنة الطبقات الرأسمالية، بينما الأنظمة الجمهورية تستمر في تعزيز الاستبداد تحت مسمى المحافظة على النظام. والشعوب في هذه الحالة تبقى ضائعة، عالقة في فخ الوعود الزائفة التي لا تؤدي إلى أي تغيير جوهري في الواقع.
النتيجة النهائية هي أن الشعوب في كل مكان، سواء في الغرب أو الشرق، تجد نفسها محاصرة في دائرة من الوهم الذي تروج له الأنظمة السياسية، دون أن تكون لها أي قدرة حقيقية على تحقيق التغيير أو تحسين أوضاعها. إنها معركة بين النخب السياسية، في الوقت الذي تبقى فيه الإرادة الشعبية غائبة، محكومةً بمصالح القوى الكبرى التي تظل تهيمن على مقدرات الشعوب.
رابعاً: الخلاصة: نحو النظام السياسي البديل
في خضم الصراع بين "الحمار الديمقراطي" و"الفيل الجمهوري"، وبينما تزداد هوة التفريق بين النخب الحاكمة والشعوب المقهورة، تصبح الحاجة إلى نظام سياسي بديل أمراً لا مفر منه. إذا كنا نرغب في الخروج من هذه الدائرة المفرغة من الوعود الزائفة والسيطرة المستمرة، فإننا بحاجة إلى التفكير في نموذج سياسي جديد لا يقتصر على التلاعب بالمفاهيم أو تحسين الواجهات، بل يقوم على إعادة تعريف القيم الأساسية للحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة الفعلية.
نظام سياسي بديل يجب أن يتجاوز الثنائية التي يفرضها النظامان الديمقراطي والجمهوري، تلك الثنائية التي تكرس الانقسامات الاجتماعية وتخدم المصالح الضيقة للطبقات الحاكمة. إنه الوقت لإعادة التفكير في كيفية بناء نظام يتيح مشاركة حقيقية وفعّالة لجميع أفراد المجتمع، لا مجرد طبقات معينة تسيطر على السلطة وتحدد مصير الآخرين. إن فكرة الديمقراطية الحقيقية لا يمكن أن تنبني على انتخابات شكلية أو هيمنة مالية، بل على توزيع حقيقي للسلطة التي تُمكّن الجميع من التأثير في مسار حياتهم السياسية والاقتصادية.
النظام البديل يجب أن يعتمد على أسس من العدالة الاجتماعية الفعلية، بعيداً عن الوهم الذي تقدمه الأنظمة الحالية. لا بد من إعادة بناء الثقة بين المواطن والنظام السياسي، من خلال تحقيق المساواة في الفرص والحقوق، وضمان أن لا يبقى أحد خارج دائرة المشاركة السياسية. إن هذه المساواة تتطلب إعادة النظر في توزيع الثروات والموارد، بحيث لا تُستغل لصالح فئة صغيرة تتحكم في مقدرات المجتمع بأسره.
النظام السياسي البديل ليس مجرد خيار، بل هو ضرورة لبناء مستقبل أفضل. لا يمكن أن تظل الشعوب أسيرة لمصالح القوى الكبرى التي تحكم من خلال أدواتها القديمة مثل الديمقراطية والشكل الجمهوري، بينما تبقى تلك الأنظمة بعيدة عن تحقيق المساواة الحقيقية. بدلاً من التمسك بنماذج لا تجلب سوى الارتباك والضياع، يجب أن نسعى إلى خلق بيئة سياسية جديدة تشجع على التنوع، وتعترف بحق كل فرد في المشاركة في صنع القرار.
وفي ظل هذه الرؤية، يجب أن نرفض الأساطير التي تحاول الأنظمة الكبرى فرضها على الشعوب، وأن نعمل على بناء نظام سياسي يقوم على أساس التشاركية الحقيقية، بحيث يصبح لكل فرد دور حقيقي في تحسين وضعه والمساهمة في تشكيل المستقبل. يمكننا أن نستوحي من تجارب الماضي، ولكن مع الحرص على تحديثها لتناسب واقعنا المعاصر، من خلال تطوير نموذج سياسي يتيح للشعوب القدرة على تحقيق تطلعاتها بعيداً عن ضغوط الهيمنة الخارجية.
إن التغيير لا يأتي من الأنظمة الكبرى أو القوى العظمى، بل من إرادة الشعوب التي ترفض الخضوع والتمسك بالنماذج التي أُجبرت على قبولها. فالوقت قد حان لكي نبحث عن بديل حقيقي، يتجاوز منطق القوة ويُؤسس لمستقبل يضمن العدالة والمساواة لكل فرد، ويحقق آمال الشعوب في الحرية والكرامة.
في النهاية، لا ينبغي أن نبقى أسرى لهذا الصراع بين "الحمار الديمقراطي" و"الفيل الجمهوري". إذا أردنا أن نغير مصيرنا، يجب أن نبحث عن شكل سياسي جديد يتجاوز هذه الأنظمة ويقوم على أساس العدالة الحقيقية والمساواة الفعّالة. قد يكون من الضروري أن نتحرر من الثنائيات التي تفرضها الأنظمة الكبرى وأن نعيد التفكير في كيفية بناء نظام سياسي يعتمد على تشاركية حقيقية بين الشعوب، دون أن تظل هذه الأنظمة أداة لتسليط الضوء على بعض الفئات في المجتمع على حساب الآخرين.
فالوقت قد حان لأن نفكر في نموذج سياسي جديد ينطلق من واقعنا، نحن الشعوب التي ما زالت تطمح إلى الحرية والمساواة بعيداً عن هيمنة القوى الكبرى، ويكون على أساس من الديمقراطية الحقيقية والعدالة الاجتماعية.