سوريا بعد سقوط النظام: إلى أين؟
بقلم: د. عدنان بوزان
اليوم، بعد سقوط النظام البعثي العنصري وهروب المجرم بشار الأسد، دخلت سوريا في مرحلة جديدة وعصر مختلف تماماً. ورغم الاحتفالات والتفاؤل الذي يظهره البعض، يبقى واقع البلاد معقداً، والمستقبل يبدو غير واضح، بل يحمل في طياته الكثير من الشكوك والمخاوف. من هنا، لا يمكننا أن نغفل أن سوريا بعد هذا التغيير الجذري لن تكون مجرد انتقال من حالة إلى أخرى، بل ستكون على موعد مع صراعات جديدة قد تكون أكثر دموية وقسوة من تلك التي شهدتها في السنوات الماضية.
بينما يحتفل بعض السوريين بإسقاط النظام، لا يمكننا أن نغفل الواقع المرير الذي يعكس صراعاً عميقاً على السلطة، وتأثيرات الطائفية، والتكتلات الإقليمية والدولية التي لم تنتهِ بعد. قد سقط النظام البعثي، ولكن تمزق النسيج الاجتماعي السوري ما زال قائماً، ولا يزال البحث عن هوية مشتركة في سوريا الجديدة مسألة صعبة ومعقدة. القوى التي فرضت نفسها في الساحة السورية على مدى السنوات الماضية ستكون طرفاً أساسياً في تشكيل معالم المستقبل السوري، سواء كانت القوى العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية.
المشكلة الأساسية التي تواجهها سوريا اليوم هي غياب الوحدة الداخلية، فالتنوع السياسي والطائفي والثقافي في البلاد كان وما زال مصدراً للصراع المستمر. الطوائف المختلفة، والمناطق المتباينة، والعوامل الإقليمية والدولية التي تدخلت في الأزمة تجعل من الصعب الوصول إلى اتفاق شامل وموحد يمكن أن يضمن حقوق جميع الأطياف السورية. دون الوصول إلى اتفاق داخلي، ستستمر سوريا في الغرق في حلقة مفرغة من العنف والصراع الدموي الذي يعمق الفجوة بين مختلف المكونات.
وبذلك، لا يمكن النظر إلى المستقبل السوري بتفاؤل مفرط. إن لم تنجح القوى السياسية في توحيد رؤاها وإعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية وعادلة، فإننا سنشهد في المستقبل صراعات عميقة قد تأخذ البلاد إلى مرحلة جديدة من الانقسام والصراع الداخلي. وهنا يأتي الدور الأساسي للمجتمع السوري في تقديم الحلول التي تضمن للجميع حقوقهم وتساهم في بناء مجتمع متعدد يحترم التنوع ويؤمن بالعدالة والمساواة.
إذا لم يتحقق هذا الاتفاق، فإن الطريق سيكون طويلاً، والأمل سيكون محدوداً. يجب أن تكون هذه المرحلة الجديدة مرحلة توافقات حقيقية بين جميع الأطياف، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، لضمان أن لا تصبح سوريا مسرحاً لمزيد من الحروب الداخلية التي تدمر ما تبقى من هذا البلد.
أعتقد أنه بعد اليوم، سيواجه الشعب السوري الحرب الأهلية بمفرده، دون أن تكون هناك قوة دولية حقيقية تدعمه أو تتدخل لإنهاء هذا الصراع. بعد سنوات من التدخلات الخارجية التي كانت تهدف إلى تحقيق مصالح إقليمية ودولية، أصبح واضحاً أن المجتمع الدولي بدأ في الابتعاد عن الشأن السوري. الدول التي كانت تدعم الأطراف المختلفة في سوريا قد خففت من التزاماتها، أو أصبحت أولوياتها تتغير في ضوء المصالح المتجددة أو الأزمات الأخرى التي تمر بها المنطقة.
ما يثير القلق هنا هو أن الشعب السوري سيجد نفسه أمام تحديات ضخمة في مواجهة هذه الحرب الأهلية المتجددة. سيكون الصراع متعدد الأبعاد: سياسياً، طائفياً، وإقليمياً. القوى السياسية المحلية التي تحاول أن تجد لنفسها مكاناً في هذا الفراغ السياسي، ستجد نفسها عاجزة عن توحيد الرؤى والتوجهات بسبب التباين الكبير في المصالح. في غياب الدعم الخارجي، لن يكون هناك من يضع حداً لهذا الصراع أو يقدم حلاً نهائياً.
الأمر الأكثر إيلاماً هو أن الوضع السوري قد أصبح ساحة لصراع الدماء بين أطياف الشعب نفسه، بعد أن استنفدت الحرب السابقة كل إمكانيات الوحدة والتعايش. الطوائف والمجموعات المختلفة، بدلاً من أن تتوحد في بناء الدولة السورية الجديدة، قد تجد نفسها منخرطة في مواجهات متواصلة من أجل السلطة والنفوذ. إذا لم يتمكن السوريون من الوصول إلى اتفاق داخلي حول كيفية بناء سوريا جديدة على أسس من العدالة والمساواة، فإننا قد نكون أمام صراع طويل الأمد قد لا ينتهي بسهولة.
الحرب الأهلية التي قد يخوضها الشعب السوري ستكون حرباً مريرة، لا تقتصر على الجبهات العسكرية فحسب، بل تشمل أيضاً الجبهة الاجتماعية والاقتصادية. سيجد المواطنون أنفسهم محاصرين بين فوضى الحرب والأزمات الإنسانية التي لا حصر لها، مما يعمق معاناتهم ويزيد من تشرذم المجتمع. في ظل هذه الظروف، سيكون المستقبل السوري ضبابياً للغاية، إلا إذا تم إيجاد حل شامل يضمن حقوق الجميع ويعيد للبلاد الحد الأدنى من الاستقرار.
في النهاية، يبقى الأمل في أن الشعب السوري، بعد أن عانى ما عاناه، سيتمكن من تجاوز هذا الواقع المرير، ولكنه بحاجة إلى تجميع قوته الداخلية وتجاوز الانقسامات العميقة التي كانت السبب الرئيس في إطالة عمر هذه الأزمة.