الحرب في أوكرانيا: بين التناقضات الغربية والدروس الاستراتيجية
- Super User
- مقالات سياسية
- الزيارات: 1323
بقلم: د. عدنان بوزان
في خضم الأحداث المتسارعة التي تشهدها الساحة الدولية، تتجلى بوضوح تداعيات السياسات المتقلبة للدول العظمى، التي تضع المصالح الاستراتيجية فوق كل اعتبار، حتى لو كان ذلك على حساب الاستقرار العالمي. ومن أبرز القضايا التي تكشف هذه الحقيقة الحربُ الروسية على أوكرانيا، التي لم تكن لتحدث لولا السياسات الغربية المتناقضة، التي مهدت الطريق أمام موسكو للقيام بهذه الخطوة الجريئة.
عندما وافقت أوكرانيا في عام 1994 على التخلي عن ترسانتها النووية، التي كانت ثالث أكبر ترسانة في العالم، لم يكن ذلك قراراً عبثياً أو نابعاً من رغبة ذاتية في نزع السلاح، بل كان خياراً استراتيجياً اتخذته كييف بناءً على وعود وضمانات دولية قُدِّمت لها من قبل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وذلك في إطار مذكرة بودابست للضمانات الأمنية. وقد تعهدت واشنطن ولندن، إلى جانب موسكو، بضمان أمن أوكرانيا وسيادتها وسلامة أراضيها مقابل تخليها عن الأسلحة النووية التي ورثتها عن الاتحاد السوفيتي. ورغم أن هذه الاتفاقية لم تكن معاهدة دفاعية ملزمة، فإنها حملت التزاماً أخلاقياً وسياسياً واضحاً بعدم السماح بأي اعتداء خارجي يستهدف أوكرانيا.
إلا أن الوقائع التي تكشفت لاحقاً أثبتت أن هذه الضمانات لم تكن سوى وعود جوفاء سرعان ما تلاشت أمام المصالح السياسية المتغيرة. فمنذ عام 2014، عندما ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم، لم تحرك الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة ساكناً، سوى بفرض عقوبات اقتصادية لم تكن كافية لردع موسكو. وقد شكَّل هذا السلوك الغربي المتخاذل سابقةً خطيرةً شجَّعت روسيا على توسيع نطاق تدخلها في أوكرانيا، حيث لم تجد أمامها رادعاَ حقيقياً يثنيها عن مواصلة سياستها التوسعية.
إن أحد الأخطاء الجسيمة التي وقعت فيها كييف هو تصديقها لتلك الضمانات الدولية دون أن تأخذ في الاعتبار الطبيعة المتغيرة للتحالفات الدولية وحسابات المصالح. فلو احتفظت أوكرانيا بترسانتها النووية، لما تجرأت روسيا على شن أي هجوم عليها، إذ إن الردع النووي كان سيشكِّل عاملاً حاسماً في كبح أي مغامرة عسكرية روسية، كما هو الحال مع الدول النووية الأخرى التي تتمتع بحصانة ضد أي اعتداء خارجي. ولكن بعد تخليها عن هذا السلاح الرادع، باتت أوكرانيا عرضةً للتهديدات العسكرية، خصوصاً في ظل غياب ضمانات أمنية فعلية من الغرب.
الموقف الأمريكي الحالي من الحرب في أوكرانيا يعكس تناقضاً واضحاً في السياسة الخارجية لواشنطن. فالرئيس دونالد ترامب، الذي أظهر منذ بداية ولايته الثانية ميلاً إلى تقليص التزامات الولايات المتحدة الخارجية، لم يكن يخفي توجهاته الانعزالية التي شكَّكت في جدوى استمرار الدعم الغربي لكييف. ومع أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة قدمت مساعدات عسكرية لأوكرانيا، فإن هذه المساعدات ظلت محدودة ولم تصل إلى مستوى يغيِّر المعادلة الاستراتيجية على الأرض، وهو ما جعل موسكو ترى في التردد الغربي فرصةً يجب استغلالها لصالح تحقيق أهدافها التوسعية.
ما يحدث اليوم في أوكرانيا هو نتيجة مباشرة لخيانة الغرب لالتزاماته. فالولايات المتحدة والمملكة المتحدة لم تلتزما بتعهداتهما الواردة في مذكرة بودابست، وهو ما أعطى إشارات خاطئة إلى روسيا بأن استخدام القوة لن يواجه بردٍّ صارم. كما أن هذا الوضع بعث برسالة مقلقة إلى دول أخرى حول العالم، مفادها أن الضمانات الدولية لا يمكن التعويل عليها، وأن امتلاك السلاح النووي يبقى الوسيلة الأنجع لضمان الأمن القومي في عالم تحكمه القوة لا القوانين الدولية.
في ضوء ذلك، يمكن القول إن الحرب الروسية على أوكرانيا لم تكن لتحدث بهذه السهولة لولا التواطؤ الضمني من قبل الدول الغربية التي لم تفِ بوعودها. كما أن هذا المشهد يعيد إلى الأذهان الدروس التاريخية حول أهمية امتلاك وسائل الردع اللازمة لحماية السيادة الوطنية، خاصةً في بيئة دولية تتسم بالغموض وانعدام الثقة. وبهذا، فإن ما جرى لأوكرانيا يشكِّل درساً بالغ الأهمية للدول الأخرى، التي قد تجد نفسها في المستقبل أمام تحديات مشابهة، دون أن تجد من يضمن لها أمنها وسلامتها.