التغيير الديمقراطي في المجتمعات العنيفة: بين الممكن والمستحيل
- Super User
- مقالات سياسية
- الزيارات: 991
بقلم: د. عدنان بوزان
تُعدّ الديمقراطية إحدى أعظم الإنجازات السياسية التي سعت البشرية لتحقيقها، إذ توفر إطاراً للحكم قائماً على التعددية، الحقوق، والحريات. ومع ذلك، فإن الانتقال إلى الديمقراطية ليس مجرد قرار سياسي أو قانوني يمكن فرضه بين ليلة وضحاها، خاصة في المجتمعات التي ترسّخت فيها ثقافة العنف والقمع على مدى عقود أو حتى قرون. فالانتقال السريع والمفاجئ قد لا يؤدي إلى الحرية والاستقرار، بل ربما يكون مدخلاً إلى الفوضى والدمار، أو يعيد إنتاج الاستبداد بأشكال مختلفة.
لطالما كانت الديمقراطية هدفاً تسعى إليه الشعوب عبر التاريخ، بوصفها نموذجاً للحكم يعزز مبادئ الحرية، العدالة، والمشاركة السياسية. فمنذ نشأتها في أثينا القديمة، وحتى تطورها في العصر الحديث، ارتبطت الديمقراطية ارتباطاً وثيقاً بطموحات المجتمعات نحو تحقيق أنظمة أكثر استقراراً وعدالة، تتيح للمواطنين فرصة التعبير عن آرائهم والمشاركة في صنع القرار دون خوف أو قمع. ومع ذلك، فإن تحقيق الديمقراطية لم يكن يوماً عملية سلسة أو فورية، بل هو مسار طويل مليء بالتحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، خاصة في المجتمعات التي شهدت عقوداً من الحكم الاستبدادي أو الصراعات العنيفة.
فالانتقال من أنظمة تقوم على العنف والقمع إلى نظام ديمقراطي لا يقتصر على مجرد سنّ القوانين أو إجراء انتخابات حرة، بل يتطلب تحولاً جذرياً في الثقافة السياسية والمجتمعية. إذ أن الأنظمة القمعية لا تكتفي بإخضاع الأفراد بالقوة، بل تعمل على إعادة تشكيل وعيهم، بحيث يصبح الاستبداد جزءاً من البنية الذهنية والسلوكية للمجتمع. وهنا تكمن خطورة التحول الديمقراطي المفاجئ، فهو قد يواجه مقاومة شرسة من القوى التي استفادت من الاستبداد، كما قد يؤدي إلى فراغ سياسي وأمني يُستغل من قبل جماعات غير ديمقراطية تسعى لفرض سلطتها بوسائل أخرى، ربما تكون أكثر قسوة من سابقاتها.
إن تجارب العديد من الدول أظهرت أن التحول الديمقراطي السريع دون تمهيد مؤسسي واجتماعي يؤدي في كثير من الأحيان إلى نتائج عكسية. فقد شهدنا كيف تحولت بعض الثورات الساعية للديمقراطية إلى صراعات أهلية، وكيف عاد الاستبداد في بعض الدول بعد فترة وجيزة من الانتقال الديمقراطي بسبب غياب المؤسسات القادرة على حماية العملية الديمقراطية من الانهيار. وهذا ما يدفع إلى التساؤل: هل يمكن نقل مجتمع غارق في العنف إلى الديمقراطية دون المرور بمراحل انتقالية مدروسة؟ وما هي الأدوات الكفيلة بضمان أن لا يتحول الحلم الديمقراطي إلى كابوس من الفوضى أو عودة الاستبداد بوجه جديد؟
إن البحث في هذه الإشكالية يتطلب فهماً عميقاً لطبيعة المجتمعات العنيفة، وللآليات التي يمكن من خلالها تهيئة البيئة المناسبة للتحول الديمقراطي، بحيث يكون مستداماً وقادراً على الصمود أمام التحديات الداخلية والخارجية.
1. إشكالية الانتقال من العنف إلى الديمقراطية:
حين يكون العنف هو الأداة الأساسية التي تُدار بها المجتمعات، فإن أي تحول ديمقراطي يجب أن يأخذ في الاعتبار البنية العميقة لهذا العنف: كيف نشأ؟ ومن يغذيه؟ وما القوى المستفيدة منه؟ فالتغيير السياسي الجذري، دون معالجة هذه العوامل، سيؤدي إما إلى انهيار الدولة أو إلى صعود قوى جديدة تمارس الاستبداد تحت غطاء ديمقراطي.
في المجتمعات التي حكمتها نخب استبدادية وصلت إلى السلطة عبر القمع والقوة وليس عبر الكفاءة أو الاستحقاق، يصبح الأفراد الذين نشأوا في ظل هذه الأنظمة غير واعين لحقوقهم وغير قادرين على ممارسة الديمقراطية بشكل سليم. هؤلاء الأفراد قد يرفضون الديمقراطية ليس لأنهم لا يريدون الحرية، بل لأنهم لم يتعلموا كيف تُمارَس ولا يدركون تبعاتها الحقيقية.
2. القوى التي تعيق الديمقراطية:
الانتقال الديمقراطي في المجتمعات العنيفة ليس مجرد مسألة إرادة شعبية، بل هو صراع بين قوى تسعى للتغيير وأخرى تخشى فقدان سلطتها. وهذه القوى قد تشمل:
• الأنظمة العسكرية والأمنية: التي تعتمد على القمع وتمثل العائق الأكبر أمام أي تحول ديمقراطي.
• النخب الاقتصادية المستفيدة من الفساد: التي تخشى أن يؤدي الانفتاح الديمقراطي إلى توزيع أكثر عدالة للثروة.
• التيارات الأيديولوجية المتشددة: التي تخشى فقدان نفوذها لصالح قوى سياسية أكثر انفتاحاً.
• الجماعات المسلحة والميليشيات: التي ترى في العنف وسيلة للحفاظ على مصالحها، وتخشى أن تؤدي الديمقراطية إلى إنهاء وجودها.
3. مخاطر التحول الديمقراطي المفاجئ:
المجتمعات التي اعتادت على العنف لا تنتقل إلى الديمقراطية بسلاسة. فالتجارب التاريخية تُظهر أن التحول السريع وغير المدروس قد يؤدي إلى واحدة من ثلاث نتائج كارثية:
• الفوضى والانهيار: كما حدث في بعض دول الربيع العربي، حيث أدى انهيار الأنظمة السلطوية إلى صراعات داخلية بدلاً من تحقيق الاستقرار الديمقراطي. على سبيل المثال في سوريا وليبيا واليمن .
• عودة الاستبداد بأشكال مختلفة: حيث تعود قوى القمع إلى السلطة عبر أدوات جديدة، مثلما حدث في العديد من الانقلابات العسكرية التي جاءت بعد فترات انتقالية ديمقراطية.
• صعود التطرف والإرهاب: إذ قد يؤدي غياب السلطة المركزية إلى استغلال الجماعات المتطرفة للفراغ السياسي، مما يهدد أي تجربة ديمقراطية وليدة.
4. كيف يمكن تحقيق انتقال ديمقراطي ناجح؟:
لضمان تحول ديمقراطي ناجح ومستدام، لا بد من اتباع استراتيجيات واقعية تأخذ في الاعتبار طبيعة المجتمع، ومنها:
• الإصلاح التدريجي: بدلاً من القفز إلى الديمقراطية بشكل فوضوي، يجب العمل على تغيير تدريجي يضمن بناء مؤسسات قوية وتعزيز الوعي السياسي.
• تفكيك شبكات العنف: عبر إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية، وضمان عدم سيطرة النخب القمعية على القرار السياسي.
• إدماج الفئات المهمشة: فالديمقراطية لا تنجح إذا كانت مقتصرة على النخب، بل يجب أن تشمل جميع فئات المجتمع، وخاصة الفئات التي عانت من التهميش.
• نشر ثقافة الديمقراطية: من خلال التعليم، الإعلام، والممارسات السياسية التدريجية التي تعزز قيم الحوار والتعددية.
• تحقيق العدالة الانتقالية: كي لا تتحول الديمقراطية إلى مجرد إعادة إنتاج للظلم السابق، يجب محاسبة المسؤولين عن العنف دون الانزلاق إلى الانتقام والفوضى.
في الختام، إن محاولة نقل مجتمع غارق في العنف إلى الديمقراطية بشكل مفاجئ قد تؤدي إلى نتائج عكسية تماماً. فالتغيير الجذري دون تمهيد قد يولد فوضى أو مقاومة عنيفة من القوى التي بنت سلطتها على العنف. والأفراد الذين نشأوا في ظل أنظمة استبدادية، حيث لا صوت لهم، لن يصبحوا مواطنين ديمقراطيين بمجرد تغيير القوانين، بل يحتاجون إلى إعادة تأهيل فكري وثقافي طويل المدى. لذا، فإن التحول الديمقراطي يجب أن يكون عملية مدروسة، تتجنب القفز إلى المجهول، وتبني بدائل حقيقية للاستبداد، وإلا فإن الاستبداد سيعيد إنتاج نفسه بأشكال جديدة، تاركاً المجتمعات عالقة في دوامة لا تنتهي من القمع والاضطراب.