التحاليل السياسية
لبنان تمهيد لسوريا: هل " التنف "هي الهدف؟
بقلم: د. عدنان بوزان
تشهد المنطقة تصعيداً خطيراً في أعقاب الحرب الإسرائيلية على غزة، والتي، بعد أن خلفت دماراً واسعاً وقتلاً مأساوياً للمدنيين، انتهت تقريباً لتفتح فصلاً جديداً من الصراع الذي بات الآن يمتد إلى لبنان. مع بداية العمليات العسكرية في الضاحية الجنوبية، وهي المعقل الأساسي لحزب الله، توسعت الحرب سريعاً لتشمل مناطق واسعة من البلاد. العمليات الإسرائيلية هذه المرة لا تقتصر على أهداف محددة، بل تشمل جميع النقاط العسكرية التابعة لحزب الله وغيره من الفصائل المسلحة، مما أثار تساؤلات حول الأهداف الحقيقية لهذه الحرب وغاياتها الاستراتيجية.
إحدى أبرز التطورات التي تميزت بها هذه الحرب هي استهداف القيادات العسكرية والسياسية لحزب الله بشكل ممنهج. ما من شك أن تصفية هذه القيادات تهدف إلى إضعاف التنظيم وتقويض بنيته الداخلية، لكن السؤال الذي يلوح في الأفق هو: هل سيكون هذا نهاية لحزب الله، أم أن هذه الضربات ستدفع الحزب للتجدد بأساليب جديدة؟ يبدو أن الرهان الإسرائيلي يعتمد على استنزاف الموارد البشرية والعسكرية لحزب الله، في محاولة لمنع قيامه بأي دور إقليمي فعال مستقبلاً.
لكن، من منظور أوسع، ما الذي يعنيه هذا التصعيد بالنسبة للبنان ككل؟ هل نتجه نحو إعادة احتلال إسرائيل لأجزاء من لبنان كما حدث في ثمانينيات القرن الماضي؟ رغم أن هذا الاحتمال لا يزال مطروحاً، إلا أن الأوضاع الحالية تشير إلى أن أهداف إسرائيل قد تكون مختلفة. هناك من يرى أن هذه الحملة العسكرية قد تكون مجرد مرحلة تمهيدية لمخطط أوسع يشمل ليس فقط لبنان، بل يتعداه إلى دول أخرى في المنطقة، وخاصة سوريا. وضمن هذا السياق، يبرز سؤال ملح: هل تحتل دمشق بعد لبنان؟
الحديث عن احتلال دمشق أو حتى عن تصعيد عسكري إسرائيلي مباشر ضد النظام السوري ليس جديداً. فقد عاشت سوريا سنوات من النزاع الداخلي المدمر، لكنها ظلت، رغم كل شيء، متماسكة في مناطقها الرئيسية تحت قيادة النظام. إلا أن الحرب الإسرائيلية على لبنان قد تشكل ضربة مزدوجة: فهي تستنزف حزب الله، الحليف الأساسي لسوريا، وتضعف بذلك الجبهة الشمالية للنظام السوري. وبالنظر إلى العلاقات التاريخية بين حزب الله وسوريا، فإن إضعاف حزب الله بشكل كبير قد يجعل دمشق في موقف هش، خصوصاً إذا ما تبعه تصعيد إسرائيلي مباشر.
الأوضاع في سوريا معقدة بطبيعتها، إذ أنها ليست فقط ساحة للصراع الداخلي بين النظام والمعارضة المسلحة، بل هي أيضاً ساحة لتجاذبات إقليمية ودولية متعددة. إيران، الحليف الرئيسي للنظام السوري، قد تجد نفسها في وضع حرج إذا ما استمرت الضربات الإسرائيلية على حزب الله وتمكنت من تحقيق أهدافها. فالضربات التي توجه الآن لحزب الله ليست فقط ضربات ضد تنظيم عسكري، بل هي ضربات ضد النفوذ الإيراني في المنطقة. ومن هنا، فإن التصعيد الإسرائيلي قد يكون جزءاً من استراتيجية أشمل تهدف إلى تقليص النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان.
ما يزيد من تعقيد الأوضاع هو التحالفات الدولية والإقليمية. فروسيا، التي تلعب دوراً مهماً في الصراع السوري منذ تدخلها العسكري في 2015، قد تجد نفسها مضطرة للتدخل لمنع أي تهديد جدي للنظام السوري. إلا أن العلاقة الروسية-الإسرائيلية تظل متشابكة، فروسيا، رغم دعمها لسوريا، تحافظ على علاقات قوية مع إسرائيل، وهو ما يجعل من تدخلها المحتمل غير مضمون. أما الولايات المتحدة، فهي تنظر إلى التطورات في المنطقة من منظور أوسع يشمل إيران وملفها النووي، مما قد يجعلها أقل اهتماماً بتطورات مباشرة في سوريا.
لكن ماذا عن دمشق؟ هل تشكل هدفاً حقيقياً؟ النظام السوري، رغم ضعفه الحالي، يمتلك ما يمكن وصفه بـ"التحصين الذاتي"، نتيجة السنوات الطويلة من الصراع التي جعلته مرناً في التعامل مع مختلف الأزمات. ورغم كل الضربات التي تعرض لها، لا يزال النظام مسيطراً على المناطق الحيوية في البلاد. ومع ذلك، فإن أي ضعف كبير في حزب الله قد يفتح الباب أمام محاولات إسرائيلية لتوسيع نطاق عملياتها نحو سوريا، خاصة إذا ما رأت تل أبيب أن هناك فرصة للتخلص من النفوذ الإيراني في البلاد.
لكن السؤال الأساسي هنا ليس ما إذا كانت إسرائيل ستحتل دمشق بشكل مباشر، بل ما إذا كانت ستستمر في استراتيجيتها القائمة على تقويض حلفاء إيران في المنطقة. فالاحتلال المباشر لسوريا قد يكون خياراً مكلفاً جداً، خاصة في ظل الأوضاع الدولية الراهنة، ولكن العمليات الجوية والضربات المركزة قد تكون الوسيلة التي تعتمدها إسرائيل لإضعاف النظام السوري وحلفائه دون الحاجة إلى التورط في احتلال مباشر.
يبدو أن المنطقة مقبلة على مرحلة من التصعيد الخطير الذي لا يقتصر على لبنان وحده، بل قد يمتد ليشمل سوريا، وربما مناطق أخرى. السيناريوهات مفتوحة على احتمالات عدة، منها تصعيد كبير يقود إلى مواجهة إقليمية واسعة، ومنها احتمال تدخلات دولية تسعى للحد من هذا التصعيد. لكن الثابت في كل ذلك هو أن الحرب على لبنان قد لا تكون سوى البداية في صراع أكبر يتجاوز الحدود الحالية، وأن دمشق قد تكون الهدف التالي في هذا الصراع الطويل والمعقد.
بناءً على ذلك، يبدو أن المرحلة اللبنانية الحالية ما هي إلا تمهيد لتحرك إسرائيلي نحو جنوب سوريا، وخاصة المنطقة القريبة من الحدود مع الجولان ومنطقة التنف الاستراتيجية. هذه المنطقة ليست فقط ذات أهمية عسكرية وأمنية، بل أيضاً ذات بُعد سياسي كبير، كونها تمثل نقطة تقاطع لمصالح إقليمية ودولية. إذ إن الجنوب السوري يشكل منذ زمن بعيد هاجساً أمنياً لإسرائيل، التي تعتبر تواجد الميليشيات الموالية لإيران وحزب الله بالقرب من حدودها تهديداً مباشراً لها.
منذ بداية التدخل الإيراني في سوريا، وإسرائيل تنظر بقلق إلى الوجود المتزايد للفصائل المسلحة المدعومة من إيران، والتي تسعى لتعزيز مواقعها في المناطق المحاذية للحدود الإسرائيلية. في هذا السياق، فإن العمليات الإسرائيلية في لبنان تُعتبر خطوة أولى لضرب النفوذ الإيراني في المنطقة، تمهيداً لإحداث تغيير في موازين القوى في جنوب سوريا. وهنا تظهر منطقة التنف كمحور أساسي في هذه الاستراتيجية.
التنف ليست فقط قاعدة أمريكية مهمة على الحدود السورية العراقية، بل إنها تشكل حاجزاً أمام الطموحات الإيرانية في بناء ممر بري يمتد من طهران إلى البحر المتوسط عبر العراق وسوريا. من هذا المنطلق، قد يكون التحرك الإسرائيلي نحو التنف جزءاً من عملية أكبر تهدف إلى منع إيران من استخدام هذا الممر الحيوي لنقل الأسلحة والمعدات لحزب الله في لبنان وللفصائل المسلحة في سوريا.
بمعنى آخر، قد لا تكون إسرائيل معنية باحتلال دمشق، لكن من الواضح أنها تسعى لتعزيز وجودها وتأمين مصالحها في الجنوب السوري. وقد تركز العمليات الإسرائيلية المقبلة على ضرب النقاط العسكرية والمواقع الاستراتيجية التي تسيطر عليها إيران وحزب الله في الجنوب السوري، بهدف إنشاء منطقة عازلة آمنة على طول الحدود الإسرائيلية السورية. هذه المنطقة العازلة ستمنح إسرائيل القدرة على التحكم بالجنوب السوري ومنع أي تقدم إيراني باتجاه الجولان.
منطقة التنف قد تكون المحطة التالية في هذا السيناريو، نظراً لموقعها الاستراتيجي الذي يسمح بالتحكم في التحركات العسكرية والتجارية بين العراق وسوريا. إذا تمكنت إسرائيل من تأمين التنف أو التنسيق مع الولايات المتحدة لتعزيز السيطرة عليها، فإن ذلك سيكون ضربة قاصمة للنفوذ الإيراني في المنطقة. وفي الوقت نفسه، ستظل دمشق بعيدة عن هذه العمليات المباشرة، حيث ستركز إسرائيل على توجيه ضربات استباقية لمناطق محددة في الجنوب السوري لتفادي التورط في مواجهة شاملة مع النظام السوري أو القوى الدولية المتورطة في النزاع السوري.
ما يؤكد هذه الفرضية هو حرص إسرائيل، منذ بداية الصراع السوري، على عدم الانخراط المباشر في العمليات العسكرية داخل دمشق أو في عمق سوريا. السياسة الإسرائيلية تجاه سوريا كانت دائماً تقوم على مبدأ "الضربات الاستباقية" لمنع إيران وحلفائها من تعزيز مواقعهم بالقرب من الحدود. وبناءً على ذلك، من المرجح أن تستمر هذه السياسة في المرحلة المقبلة، مع التركيز على الجنوب السوري ومنطقة التنف، دون الحاجة إلى التورط في احتلال دمشق نفسها.
ختاماً، يبدو أن الحرب الإسرائيلية على لبنان ليست سوى فصل من صراع إقليمي أوسع نطاقاً. التدخل في جنوب سوريا هو الخطوة المنطقية التالية في هذا الصراع، لكن الهدف النهائي ليس احتلال العاصمة دمشق، بل السيطرة على النقاط الاستراتيجية التي تضمن أمن إسرائيل وتقلل من نفوذ إيران في سوريا ولبنان.