التحاليل السياسية
التحليل السياسي للوضع السوري والسيناريوهات القادمة
د. عدنان بوزان
الوضع السوري الراهن يشكل نموذجاً معقداً لتداخل المصالح الدولية والإقليمية، حيث أضحت البلاد ساحة مفتوحة للمنافسات الجيوسياسية. الصراع الذي بدأ كثورة شعبية ضد النظام السوري عام 2011، تطور ليصبح ميداناً لصراع نفوذ بين القوى الكبرى، مع تقاطعات عميقة بين اللاعبين الإقليميين والمحليين.
إذاً، الوضع السوري اليوم يُعَدُّ انعكاساً لتشابك المصالح الدولية والإقليمية على أرضٍ أُنهكتها الحرب والنزاعات منذ أكثر من عقد. رغم سقوط النظام السوري في 8 ديسمبر، تبقى البلاد تعاني من تداعيات صراعات طويلة الأمد وتآمر القوى الكبرى والإقليمية، مما يطرح تساؤلات حول دور هذه الأطراف في تعميق المأساة السورية، وخداع الكورد، وأخيراً الشعب السوري بأسره.
على مدى السنوات الماضية، مثّل الكورد عنصراً أساسياً في المعادلة السورية، حيث برزوا كقوة عسكرية وسياسية على الأرض، لا سيما عبر قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي كانت رأس الحربة في الحرب ضد تنظيم داعش بدعم دولي. ومع ذلك، تعرض الكورد لسلسلة من الخيانات السياسية من قبل القوى التي وعدت بدعمهم، قبل أن تتحول إلى مواقف معادية أو متخاذلة لتحقيق مصالحها الذاتية. في الوقت نفسه، استُخدم الشعب السوري ككل كوسيلة لتحقيق أجندات خارجية دون أدنى اعتبار لمطالبه بالحرية والكرامة. لفهم المشهد الحالي واستشراف السيناريوهات المستقبلية، لا بد من تحليل النقاط المركزية التي تتحكم بالوضع السوري اليوم.
أولاً: اتفاق ضمني بين النظام والمعارضة المسلحة:
في حالة فريدة من نوعها، يبدو أن هناك نوعاً من الاتفاق غير المعلن بين النظام البعثي والمعارضة المسلحة المهاجمة، وهو ما يثير التساؤلات حول طبيعة هذا الصراع. لم نشهد في أي صراع آخر بقاء رموز النظام الساقط في مواقعهم، خصوصاً عندما يتورط هؤلاء في جرائم حرب. تصريحات رئيس الحكومة وبعض الوزراء السابقين تعكس انسجاماً وتطابقاً في الخطاب، مما يشير إلى وجود تفاهم مسبق حول توزيع الأدوار لضمان بقاء النظام الساقط على رأس السلطة، مع تقديم تنازلات ظاهرية.
ثانياً: الموقف الروسي المتناقض:
على الرغم من تراجع الدعم الروسي لبشار الأسد في العديد من المحطات، فإن موسكو لا تزال تقدم مظلة حماية للنظام. ترحيل بشار الأسد بطائرة روسية وإتاحة حق اللجوء له يشير إلى أن روسيا، رغم تخاذلها الظاهري، لا تزال تسعى للحفاظ على نفوذها في سوريا عبر أدوات بديلة، قد تشمل بقاء النظام ولكن بوجوه جديدة أكثر توافقاً مع المرحلة المقبلة.
ثالثاً: التصعيد التركي عبر الفصائل المسلحة:
المرتزقة المدعومون من تركيا فتحوا جبهة حرب جديدة مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في منبج. هذا التصعيد يعكس استراتيجية تركية لتوسيع مناطق نفوذها، في إطار مشروعها لإضعاف قسد. تركيا تسعى لتحييد الكورد عبر استنزافهم عسكرياً وسياسياً، وهو ما يفتح الباب لمزيد من الصراعات الداخلية.
رابعاً: تخاذل أمريكي واتفاقيات ضمنية:
الولايات المتحدة، رغم دعمها الظاهري لقسد، تتجه نحو تقليص دورها في المنطقة لصالح ترتيبات إقليمية ودولية مع روسيا وتركيا وإسرائيل. هذا الاتفاق غير المعلن يهدف إلى إعادة رسم الخارطة السياسية لسوريا بما يتماشى مع مصالح الأطراف الكبرى، على حساب الكورد الذين يُتوقع أن يُتركوا لمصيرهم في نهاية المطاف.
خامساً: حصار قسد وتصفية الوجود الكوردي:
السيناريو الأكثر احتمالاً يتمثل في محاصرة قسد من عدة محاور:
1- تحرك العشائر في دير الزور: انقلاب تدريجي على قسد عبر إثارة نزاعات محلية.
2- تصعيد الفصائل المسلحة التركية: الهجوم من منبج وكوباني.
3- ضغوط سياسية ودبلوماسية: دفع قسد للانسحاب إلى قنديل أو إنهاء دورها تماماً.
الهدف النهائي هو القضاء على أي وجود كوردي سياسي أو عسكري مؤثر في سوريا.
سادساً: الدور الإسرائيلي المزدوج:
إسرائيل، رغم تصريحاتها الداعمة للكورد، تستخدم القضية الكوردية كأداة للضغط على النظام القادم والدول الإقليمية على حد سواء. الدعم الإسرائيلي للكورد ليس إلا ورقة تفاوضية لتحقيق مكاسب إقليمية، مثل ضمان سيطرتها على الجولان وفرض ترتيبات أمنية مع دمشق.
سابعاً: تنفيذ القرار 2254 وفق منظور بعثي:
بعد انتهاء المخطط العسكري والسياسي، سيتم تفعيل القرار الدولي 2254 تحت صيغة توافقية تعكس الهيمنة البعثية. التعديلات الدستورية المقترحة ستكون شكلية، تُرضي المجتمع الدولي شكلياً دون إحداث تغييرات جذرية. الكورد، في هذا السيناريو، سيُقصون بشكل كبير من مراكز القرار، مع وعود فضفاضة بمستقبل أفضل.
ثامناً: الانتخابات الرئاسية القادمة:
مع تشكيل حكومة انتقالية، ستنظم انتخابات رئاسية بإشراف دولي، لكنها لن تكون إلا إعادة تدوير للنظام المخلوع بوجوه الجديدة. من المتوقع أن ينتخب حافظ بشار الأسد أو شخصية من دائرته المقربة، أو رياض حجاب البعثي تحت غطاء المعارضة مما يعيد إنتاج النظام تحت غطاء الشرعية الدولية.
تاسعاً: توزيع المناصب بين النظام والمعارضة:
التوازنات المستقبلية ستُبنى على توزيع المناصب بين النظام والمعارضة المسلحة، وفق صيغة تُرضي الأطراف الإقليمية والدولية. النظام العلوي سيبقى مسيطراً على المفاصل الأمنية، في حين ستُمنح المعارضة السنية حقائب وزارية فارغة المحتوى. أما الكورد إن حصلوا على أي تمثيل، سيكون ذلك شكلياً لإظهار تنوع النظام الجديد ومن المتوقع تعين من مرتزقتهم من أمثال عبد الحكيم بشار.
خلاصة: المشهد السوري الحالي يشير إلى أن الأطراف الدولية والإقليمية تتلاعب بمصير البلاد لتحقيق مصالحها، بينما يُترك الشعب السوري بمكوناته كافة ليواجه مزيداً من المعاناة. السيناريوهات المقبلة لا تبشر بتحسن جذري، بل بمزيد من الصراعات والترتيبات الشكلية التي لن تعالج جذور الأزمة. النظام والمعارضة ليسا سوى وجهين لعملة واحدة، وكلاهما يعمل ضمن مسرحية سياسية يُعاد فيها إنتاج الأزمة تحت عناوين جديدة.