التحاليل السياسية
تصعيد إقليمي وسقوط حلب: بين تصريحات نتنياهو والتحركات العسكرية في سوريا
بقلم: د. عدنان بوزان
في إعلان وقف إطلاق النار مع لبنان، اختار بنيامين نتنياهو لغة التهديد، موجهاً كلامه نحو الرئيس السوري بشار الأسد بعبارة تحمل في طياتها تصعيداً واضحاً: "أنت تلعب بالنار". لم يكن هذا التصريح عابراً أو مجرد استعراض لفظي، بل جاء محملاً باتهامات مباشرة لسوريا بدعم حزب الله بالسلاح، مما يضع دمشق في مركز مواجهة جديدة محتملة. نتنياهو، الذي اعتاد استخدام التهديدات كأداة للضغط، يهدف هنا إلى توجيه رسائل متعددة الأطراف: لسوريا، ولإيران، وحتى لحلفائه الإقليميين والدوليين.
لكن بينما يلوّح نتنياهو بفتح "جبهة جديدة"، تشير التطورات على الأرض إلى استراتيجية أكثر تعقيداً، تعتمد على استنزاف الجيش السوري عبر وكلاء محليين وإقليميين. في اليوم نفسه، تمكنت جماعات إرهابية من الاستيلاء على معسكر للجيش السوري، وحصلت على أسلحة ودبابات، وهو ما يعكس وجود تخطيط مسبق وتنسيق عالي المستوى. السيطرة على إحدى عشرة قرية في ريف حلب الغربي، ومحاولة قطع الطريق بين حلب ودمشق، تأتي في إطار تصعيد ميداني يستهدف البنية اللوجستية للجيش السوري، مما يضعف قدرته على المناورة والدفاع عن مواقعه الاستراتيجية.
هذا التصعيد لم يكن ليحدث دون تدخل مباشر أو غير مباشر من تركيا، التي تدعم ألوية مسلحة تهاجم نقاط المراقبة السورية، بغية تسهيل عمليات الجماعات الإرهابية وإرباك خطوط الإمداد. التحركات التركية تعكس طموحاً جيوسياسياً لإعادة توزيع مناطق النفوذ في شمال سوريا، خاصة على طول الطريق الدولي الذي يربط إدلب بحلب ودمشق. هذه التحركات ليست معزولة عن تفاهمات مع روسيا، لكنها تسعى إلى تحسين موقف أنقرة التفاوضي عبر استغلال الفوضى الميدانية.
في قلب هذه الأحداث، يبدو الهدف الأساسي مشتركاً بين إسرائيل وتركيا: إضعاف النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان. التركيز على قطع خطوط الإمداد لحزب الله عبر الأراضي السورية هو جزء من خطة أوسع لقص أجنحة إيران في المنطقة، من خلال تعطيل محاور الاتصال والتمويل والدعم اللوجستي. هذا التكتيك ينسجم مع استراتيجية إسرائيلية طويلة الأمد تهدف إلى تحجيم الدور الإيراني دون الانخراط في مواجهة مباشرة.
إلى جانب التحركات العسكرية، يلعب الإعلام دوراً حاسماً في إعادة صياغة السردية حول ما يجري في سوريا. القنوات الإعلامية المرتبطة بالجماعات الإرهابية تصف نفسها بـ"المعارضة السورية"، محاولة كسب تعاطف الرأي العام الدولي، بينما تُطلق على الجيش السوري مصطلح "قوات الأسد"، في محاولة لنزع الشرعية عنه. هذا التلاعب بالمصطلحات يعكس جزءًا من الحرب الناعمة التي تستهدف إضعاف سوريا سياسياً ومعنوياً، بالتوازي مع التصعيد العسكري.
رغم كل هذه التحركات، يبقى من غير المرجح أن تُقدم إسرائيل على عمل عسكري مباشر ضد سوريا، على الأقل في المدى القريب. استخدام الجماعات الإرهابية كأداة لتحقيق الأهداف الإسرائيلية والتركية يقلل من المخاطر المباشرة، ويوفر وسيلة فعالة لتشتيت الجيش السوري واستنزاف موارده. لكن في الوقت ذاته، فإن تحالف دمشق مع موسكو وطهران قد يدفع نحو تصعيد في دعم الجيش السوري، بما في ذلك تعزيز القدرات الميدانية والتنسيق الاستراتيجي.
في ظل هذا المشهد، يبدو أن سوريا تواجه معركة معقدة تتجاوز الجوانب العسكرية لتشمل الصراع على النفوذ الإقليمي وإعادة تشكيل خريطة القوى في المنطقة. تصريحات نتنياهو ليست سوى قمة جبل الجليد، فيما تُدار المعركة الحقيقية في الظل، باستخدام أدوات متعددة تضمن استمرار حالة الفوضى والاستنزاف. التحدي الأكبر بالنسبة لدمشق وحلفائها هو القدرة على الصمود في وجه هذا الكم الهائل من الضغوط، مع المحافظة على وحدة الصف واستمرار العمليات الدفاعية، في مواجهة مشروع دولي وإقليمي يسعى لفرض وقائع جديدة على الأرض.
إذاً، في المشهد السوري المتداخل والمعقد، تتشابك الأحداث والتصريحات لتكشف عن شبكة من التحركات الإقليمية والدولية التي تتجاوز ظاهر الصراع إلى أبعاده الاستراتيجية. تصريحات بنيامين نتنياهو الأخيرة، التي هدد فيها الرئيس السوري بشار الأسد بفتح "جبهة جديدة" واتهمه بدعم حزب الله بالسلاح، تأتي في سياق تصعيد سياسي وعسكري مستمر يستهدف تغيير موازين القوى في المنطقة. تهديدات نتنياهو، التي تبدو في ظاهرها مباشرة، ليست سوى واجهة لتحركات أوسع تجري في الخفاء، حيث يعتمد على أدوات غير مباشرة لاستنزاف الجيش السوري وإضعاف حلفائه.
في الوقت ذاته، شهدت الساحة السورية تطوراً خطيراً تمثل في سقوط مدينة حلب وأجزاء واسعة من ريفها الغربي بيد الجماعات الإرهابية. هذه السيطرة لم تكن حدثاً عشوائياً، بل جاءت نتيجة لتخطيط طويل المدى ودعم خارجي واضح. الجماعات التي استولت على معسكرات الجيش السوري وحصلت على أسلحة ودبابات، تتحرك بتنسيق دقيق مع قوى إقليمية، ما يجعل الأمر جزءاً من استراتيجية شاملة تستهدف شل قدرة الجيش السوري على الدفاع عن مناطقه الحيوية. سقوط حلب يشكل ضربة استراتيجية لدولة تحاول استعادة استقرارها، إذ يهدد بعزل العاصمة دمشق عن الشمال ويعرقل خطوط الإمداد العسكرية والمدنية.
الدور التركي في هذه الأحداث يبرز بوضوح من خلال دعمها لجماعات إرهابية كانت قد أدرجتها سابقاً على قوائمها الخاصة بالتنظيمات الإرهابية، مثل جبهة النصرة وهيئة تحرير الشام. المفارقة تكمن في أن تركيا لم تعتمد على الفصائل التابعة لها بشكل مباشر، مثل ما يسمى "الجيش الوطني السوري"، بل فضلت دعم الجماعات الأكثر تشدداً، مما يثير تساؤلات حول أهدافها الحقيقية. يبدو أن تركيا ترى في هذه الجماعات أداة أكثر فاعلية لتحقيق أهدافها، خصوصاً في ظل رغبتها بإعادة توزيع مناطق النفوذ في الشمال السوري وتحسين موقعها التفاوضي مع روسيا.
هذه التحركات التركية تتزامن بشكل مثير للانتباه مع تصريحات نتنياهو، مما يشير إلى تقاطع مصالح بين الطرفين. تركيا، التي تسعى لتوسيع نفوذها في الشمال السوري وإضعاف خصومها الكورد، تجد في دعم الجماعات الإرهابية وسيلة فعالة لتحقيق ذلك دون الدخول في مواجهة مباشرة مع الجيش السوري أو حلفائه. بالمقابل، تستفيد إسرائيل من الضغط الذي تمارسه هذه الجماعات على الجيش السوري، مما يساهم في تقويض خطوط الإمداد الإيرانية لحزب الله ويضعف النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان.
على الأرض، يعكس هذا التنسيق غير المباشر بين تركيا وإسرائيل استراتيجية متعددة الأبعاد تهدف إلى استنزاف الجيش السوري وتشتيت موارده. التحركات التركية لقطع الطريق بين حلب ودمشق تأتي في سياق محاولات عزل العاصمة السورية عن بقية المناطق، بينما تستفيد إسرائيل من إضعاف الخطوط اللوجستية لحلفاء دمشق، خصوصاً حزب الله. هذا التقاطع بين أهداف الطرفين يعزز حالة الفوضى في سوريا، لكنه يخدم في نهاية المطاف مشروعاً أوسع لإعادة تشكيل خريطة النفوذ الإقليمي.
في خضم هذا التصعيد، يلعب الإعلام دوراً محورياً في تشويه الحقائق وإعادة صياغة السردية حول ما يجري على الأرض. الجماعات الإرهابية تُقدَّم على أنها "معارضة سورية"، بينما يتم تصوير الجيش السوري كمجرد "قوات الأسد"، في محاولة لنزع الشرعية عنه وإضعاف الدعم الشعبي له. هذا التلاعب بالمصطلحات يخدم أهداف الأطراف الداعمة للجماعات المسلحة، حيث يُستخدم كأداة لتبرير التدخلات الخارجية وإخفاء الأهداف الحقيقية وراء هذه التحركات.
المشهد السوري اليوم يعكس صراعاً مركباً يتجاوز مجرد المواجهة بين الجيش السوري والجماعات المسلحة. إنه ساحة مفتوحة لتقاطع المصالح الإقليمية والدولية، حيث تعمل كل من تركيا وإسرائيل، إلى جانب أطراف أخرى، على إعادة تشكيل موازين القوى في المنطقة. سقوط حلب ليس سوى جزء من هذه الصورة الكبرى، التي تعكس تحول الصراع في سوريا من حرب داخلية إلى مواجهة إقليمية متعددة الأبعاد. ومع استمرار التصعيد، يبقى السؤال مفتوحاً حول قدرة سوريا وحلفائها على مواجهة هذا الكم الهائل من الضغوط، وإمكانية استعادة التوازن في وجه مشروع يستهدف تقويض الدولة وإعادة رسم خريطة المنطقة بالكامل.