تحولات السلطة والطائفية في سوريا: قراءة تحليلية في فشل الثورة وإعادة إنتاج الاستبداد

بقلم: د. عدنان بوزان

لا تزال سوريا تعيش حالةً من الاضطراب العميق على المستويين السياسي والاجتماعي، رغم الخطابات المنتشية بانتصاراتٍ مزعومة تُعلن نهاية الثورة السورية أو صعود نظامٍ جديد يُقدَّم كأنه المخلّص. ولكن، حين نتأمل المشهد بعين نقدية وموضوعية، نجد أن الثورة، بكل ما حملته من طموحات وآمال، قد فشلت في تحقيق أهدافها الجوهرية. النظام البعثي لم يسقط فعلياً؛ بل تغيّرت الأدوار من هيمنة الطائفة العلوية إلى هيمنة الطائفة السنية ذات التوجه السلفي. هذا التبدّل في الأدوار لا يعني بأي حالٍ من الأحوال انتقالاً نحو الديمقراطية أو العدالة، بل يُعيد إنتاج منطق الهيمنة والعصابات والاستبداد بوجوهٍ جديدة.

أولاً: فشل الثورة السورية: الأسباب والتداعيات

لم تتمكن الثورة السورية من تحقيق أهدافها الأساسية، إذ بقيت العقلية البعثية، التي رسخت نفسها في مؤسسات الدولة والمجتمع على مدار عقود، قائمة دون تغيير جذري. إن ما شهدته سوريا لم يكن ثورة مكتملة الأركان، بل صراعاً طويلاً انحدر إلى مستوى الحرب الأهلية، حيث تفككت البلاد بين فصائل متناحرة، وأصبحت ساحة مفتوحة لتدخلات القوى الخارجية التي استغلت الأزمة لتحقيق مصالحها الإقليمية والدولية.

في جوهرها، تهدف الثورة إلى إحداث تغيير شامل في البنية السياسية والاجتماعية والقانونية، إلا أن هذا الهدف ظل بعيد المنال في الحالة السورية. فقد استمرت العقلية الاستبدادية في السيطرة على المشهد، بينما تم استخدام الانقسامات الطائفية كأداة لخدمة أجندات سياسية ضيقة، مما زاد من تعقيد الأزمة.

لا يقتصر فشل الثورة على قوة النظام البعثي وتحالفاته الداخلية والخارجية، بل يعود أيضاً إلى غياب رؤية سياسية موحدة بين قوى المعارضة، وعجزها عن صياغة مشروع وطني جامع قادر على تقديم بديل حقيقي للنظام القائم. لقد أدى هذا الانقسام الداخلي إلى تآكل مصداقية المعارضة، وترك فراغاً استغلته الأطراف المتصارعة لتكريس هيمنتها، مما جعل تحقيق التغيير الجذري حلماً بعيد المنال.

ثانياً: تبدّل الأدوار والطائفية كأداة للهيمنة

إن انتقال الهيمنة من الطائفة العلوية إلى الطائفة السنية ذات التوجه السلفي لا يمثل خطوة نحو التغيير أو الديمقراطية، بل هو استمرار للعقلية الإقصائية التي حكمت سوريا لعقود. هذه العقلية لا تهدف إلى بناء دولة المواطنة، بل إلى تعزيز أدوات الهيمنة والسيطرة، مستبدلةً وجوه الاستبداد دون تغيير جوهره.

الطائفية التي استخدمت سابقاً لتثبيت حكم النظام البعثي أصبحت الآن تُستغل بوجوه مختلفة، لكنها تخدم نفس الغاية: استدامة الاستبداد عبر تقسيم المجتمع وإثارة النعرات الطائفية. هذا التبدل ليس إلا إعادة إنتاج لمنطق السلطة ذاته، الذي يُقصي الآخر ويُكرس حكم النخبة المسيطرة، سواء كانت علويّة أو سنيّة أو غيرها.

لذلك، فإن الحديث عن "انتصار الثورة" هو محاولة للتعمية على الواقع المُرّ الذي يشير بوضوح إلى أن سوريا لم تحقق انتقالاً حقيقياً نحو دولة القانون والعدالة. فما زالت أدوات القمع والاستغلال تُستخدم بفاعلية، وما زال بناء نظام سياسي جديد يعكس تطلعات جميع السوريين بعيداً عن منطق الطائفية أمراً غائباً عن المشهد.

ثالثاً: دعوة المكونات السورية: الابتعاد عن الصراع

في ظل المشهد السوري المعقّد والمتأزم، تبرز ضرورة أن تتخذ المكونات السورية الأخرى، مثل العلوية والكوردية والدرزية، موقف الحياد النسبي والابتعاد عن الصراع المباشر. فالمرحلة المقبلة لن تقتصر على مواجهة بين النظام والمعارضة، بل ستشهد تصاعد انقسامات وصراعات داخل مراكز السلطة الحالية ذاتها. هذه الانقسامات ستتمحور حول النفوذ والموارد، مما سيؤدي إلى اشتباكات أكثر دموية وتفاقم الوضع الأمني.

الأموال السياسية، التي باتت تُهيمن على المشهد السوري، ستلعب دوراً حاسماً في تأجيج الصراعات الداخلية، حيث ستُوظف لدعم فصائل بعينها على حساب وحدة البلاد. ومن المحتمل أن تتحول سوريا إلى ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات بين القوى الإقليمية والدولية عبر أدوات محلية.

في هذا السياق، يُصبح التريّث ضرورة استراتيجية لهذه المكونات، مع التركيز على بناء تحالفات سياسية واجتماعية ترتكز على قيم الديمقراطية والعدالة. الابتعاد عن عقلية الهيمنة الطائفية يُعد شرطاً أساسياً لضمان مستقبل أكثر استقراراً، حيث يُمكن لهذه المكونات أن تلعب دوراً إيجابياً في صياغة مشروع وطني جامع يضع حداً للانقسامات ويؤسس لدولة المواطنة.

رابعاً: هرولة الدول وفتح السفارات: الأهداف الحقيقية

إنّ تسارع بعض الدول نحو إعادة فتح سفاراتها في دمشق لا يُمكن قراءته كإقرارٍ بشرعية النظام الجديد أو كمؤشر على استقرار سياسي في سوريا. بل على العكس، يُشكّل هذا التوجه جزءاً من لعبة جيوسياسية معقدة، تستهدف إعادة رسم خارطة النفوذ في البلاد بما يخدم المصالح الإقليمية والدولية على حساب السوريين أنفسهم.

هذه التحركات تُفضي إلى تكريس حالة الانقسام والتفكك التي تعاني منها سوريا، إذ يتم تعزيز هيمنة قوى متصارعة تعمل كأذرعٍ للقوى الخارجية. بدلاً من دعم استقرار حقيقي أو الدفع نحو حلول سياسية شاملة، تُعزز هذه السياسات النزاعات المحلية وتُغرق البلاد في صراعات جديدة.

إنّ فتح السفارات ليس دليلاً على حلّ الأزمة السورية بقدر ما هو انعكاس لمقاربة براغماتية تعتمدها بعض الدول، التي ترى في استمرار الوضع الحالي فرصة لتحقيق مكاسب استراتيجية. هذه المقاربة تزيد من تعقيد المشهد، وتؤجل أي أفق حقيقي لإعادة بناء سوريا كدولة مستقلة قائمة على العدالة والمواطنة.

خامساً: الحل الوحيد: العودة إلى القرار الأممي 2254

في خضم هذا المشهد المأساوي الذي يعيشه السوريون، يظل القرار الأممي 2254 هو الإطار الوحيد القادر على فتح أفق للحل السياسي. هذا القرار يُلزم الأطراف كافة بالجلوس إلى طاولة حوار وطني شامل يضم جميع المكونات السياسية والاجتماعية في سوريا، ويؤسس لمرحلة انتقالية تُمهّد الطريق لبناء دولة حقيقية قائمة على أسس العدالة والمواطنة.

يتطلب تطبيق هذا القرار تغييراً جذرياً في البنية الدستورية للبلاد، بحيث يُعاد تعريف الدولة لتكون دولة قانون ومساواة. دستور جديد يجب أن يضمن حقوق جميع السوريين، بعيداً عن أي هيمنة طائفية أو إقصاء سياسي، ويُركز على بناء مؤسسات مدنية ديمقراطية قادرة على ترسيخ قيم المواطنة والعدالة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن العدالة الانتقالية تُعد ركيزة أساسية للخروج من النفق المظلم. تحقيق هذه العدالة يتطلب محاسبة المسؤولين عن الجرائم التي ارتُكبت بحق الشعب السوري، والعمل على تعويض الضحايا وضمان عدم تكرار الانتهاكات.

إن الدولة المنشودة هي تلك التي تُكرّس حكم القانون، وتُتيح الفرصة لكل السوريين للمشاركة في بناء مستقبلهم المشترك. هذا الهدف لن يتحقق إلا من خلال إرادة دولية حقيقية لدعم الحل السياسي، وتعاون الأطراف السورية لإعلاء المصلحة الوطنية فوق أي اعتبارات أخرى.

خاتمة: مستقبل سوريا بين الانقسام والتغيير

سوريا اليوم تقف عند مفترق طرق، حيث يتجاذبها الماضي بثقله من الاستبداد والانقسام، والمستقبل بأملٍ مشروط بالتغيير الحقيقي والجذري. الانقسامات الطائفية والجهوية التي تمزق نسيج البلاد ليست سوى انعكاس لعقود من السياسات الإقصائية والاستغلالية، لكن هذه الجروح العميقة يمكن تجاوزها إذا توفرت الإرادة السياسية والوعي الوطني.

مستقبل سوريا لا يمكن أن يُبنى على أنقاض الهيمنة الطائفية أو استمرارية الأنظمة التي تحكم بقوة السلاح والفساد. المطلوب هو إعادة تعريف الهوية الوطنية السورية بعيداً عن الانتماءات الضيقة، وبناء دولة ديمقراطية تعددية مدنية قائمة على مبدأ المواطنة والمساواة، دولة تُعلي من شأن الإنسان وتحترم حقوقه الأساسية.

الثورة السورية، رغم فشلها في تحقيق أهدافها الأولية، لم تنتهِ. إنها بحاجة إلى مراجعة عميقة تستند إلى دروس الماضي، وترتكز على رؤية جديدة تُعيد ترتيب الأولويات وتوحّد القوى المختلفة حول مشروع وطني جامع. هذا المشروع يجب أن يتضمن إصلاحات دستورية جذرية، وعدالة انتقالية شاملة، وضمان مشاركة جميع المكونات في صنع القرار.

المستقبل السوري ليس قدراً مظلماً لا فكاك منه، بل هو فرصة تنتظر من يملك الشجاعة والرؤية لتحويل المعاناة إلى أمل، والفوضى إلى نظام، والانقسام إلى وحدة. سوريا تستحق أن تكون دولة حرة وعادلة، ودور السوريين اليوم هو النهوض مجدداً لتحقيق هذه الرؤية التي طال انتظارها.

أضف تعليق


كود امني
تحديث

X

تحذير

لا يمكن النسخ!