صرخة الروح: رحلة إلى حصن الألم ومعنى البحث
بقلم: د. عدنان بوزان
عبثاً أن أقول هكذا، كمن يحاول أن يرسم اللامرئي على صفحة الواقع. كلماتي تتهاوى كالأوراق في عاصفةٍ خريفية، تسقط واحدة تلو الأخرى، تُبتلع في زوبعة الصمت. إن أصرخ، ليس إلا صدىً ينعكس في فضاءٍ لا نهائي من اللاشيء، يعيد إليّ نفس الصرخة بكل حدتها، كطائر حبٍ محبوس في قفصٍ من الأسى.
غصباً عني، تلك الصرخة تخرج، كأنها ولادة جديدة لألمٍ قديم، متجدد في كل مرة، يتنفس بعمقٍ ويزفر حسرات القلب. أراني في حصن الألم، حيث الجدران مشيدة من ذكرياتٍ جارحة، والسقف معقود من ضباب الأحلام المهدورة. هنا، الألم ليس مجرد شعور، بل هو كيانٌ قائم بحد ذاته، يحيطني بكل ما لديه من قوة، يدفعني لأتأمل في مرآة الروح التي تعكس جراح الزمن.
في هذا الحصن، الألم له صوت، له لون، وله طعمٌ مرير. يتحدث إليّ بصوتٍ خافتٍ، كهمس الشياطين في أذن النائم. يصبغ أيامنا بلون الكآبة، ويترك في أفواهنا طعم العلقم. ومع ذلك، أجد في هذا الألم نوعاً من النبض الحي، كأن الجرح هو القلب الذي ينبض في صدر الوجود، يذكرنا بأننا، رغم كل شيء، ما زلنا أحياء.
هل يمكن للإنسان أن يجد المعنى في هذا العبث؟ ربما يكون المعنى ذاته هو في البحث، في الاستمرار في الصراخ، في التعايش مع الألم كجزء لا يتجزأ من الكينونة. كأننا، في نهاية المطاف، لا نتألم عبثاً، بل نتألم لنعيش، لنشعر، ولنكتشف أنفسنا في مرآة هذا الألم اللامتناهي.
في هذا الحصن، تُصبح الأبواب والنوافذ رموزاً للأمل المفقود والآمال المنتظرة. تنظر عبر النافذة، ترى العالم خارجياً، ينفصل عنك بحاجز شفاف. هذا الحاجز ليس مجرد زجاج، بل هو نسيج رقيق من الأحلام المحطمة والتطلعات المؤجلة. هنا، يصبح الحلم سجيناً للواقع، لكنه يظل ينبض في أعماق الروح، كأنه يناديك بلغة الصمت لتعيد بناء جسر يوصلك إليه.
تتجول في أروقة الحصن، كل زاوية تحمل قصصاً مكتوبة بدموع الخيبة وأمل البدايات الجديدة. ترى على الجدران ظلالاً من الماضي، تتراقص كالأشباح، تحكي عن لحظات الفرح المختلسة والألم الصادق. هذا التعايش بين النقيضين هو ما يخلق توازناً هشاً، يكاد يكون فنًا في حد ذاته. يتجلى هذا الفن في كيفية تحويل الألم إلى قوة، والضعف إلى إلهام.
حين تقف في قلب هذا الحصن، تشعر بعمق الوحدة التي تفتح أبواب التواصل مع الذات. هنا، تتعرى الروح من أقنعة الزيف، تواجه حقيقتها بكل شجاعة. في هذا الصراع الداخلي، تدرك أن الألم ليس عدواً يجب محاربته، بل معلماً يجب الاستماع إليه. إنه يكشف عن جوانب من النفس لم تكن تعلم بوجودها، يدفعك للنمو والتطور، ولو بخطوات بطيئة.
ومع مرور الوقت، تتعلم أن الصراخ ليس عبثاً، بل هو طريقة للتنفيس عن الروح المثقلة. هو لغة قديمة، بدائية، لكنها صادقة، تخرج من أعماق الجرح لتعلن عن وجودها. في هذا الصراخ، تجد نوعاً من الحرية، نوعاً من السلام الداخلي. تدرك أن الصرخة، بغض النظر عن قوتها أو ضعفها، هي دليل على أنك ما زلت تحارب، ما زلت تعيش.
تستمر الحياة في حصن الألم، لكن مع كل يوم، تنبت بذور الأمل في التربة المروية بالدموع. هذه البذور، برغم هشاشتها، تحمل في داخلها وعداً بمستقبل أفضل، بأن الألم سيصبح ذكرى، وأن الجراح ستشفى. قد لا يكون الطريق سهلاً، لكنه مليء بالاكتشافات والتجارب التي تجعلنا أقوى وأكثر حكمة.
وفي تلك اللحظة، يدرك الإنسان أن الألم، بصورته الأكثر عمقاً وجمالاً، هو ما يمنح الحياة لونها، صوتها، ونبضها. هو الجرح الذي نتعلم من خلاله معنى الشفاء، والحزن الذي نستشف منه فرح اللقاء. هكذا، يصبح الحصن الذي كنا نظنه سجناً، هو نفسه الملاذ الذي نتعلم فيه أعمق دروس الحياة.
وفي النهاية، ندرك أن حصن الألم لم يكن سوى مرحلة من مراحل الحياة، محطة نتوقف عندها لنتعلم وننمو. إنه مكان لا نود البقاء فيه للأبد، لكننا نخرج منه بفهم أعمق لأنفسنا وللعالم من حولنا. نتعلم أن نحتضن الألم كجزء من رحلتنا، ونعمل على تحويله إلى قوة دافعة نحو غدٍ مشرق، مليء بالأمل والفرح.