بقلم: د. عدنان بوزان
الوضع السياسي في سوريا يشهد تحولات جذرية بعد سنوات طويلة من الصراع العنيف، الذي أدى إلى تغييرات عميقة في المشهدين السياسي والعسكري للبلاد. فبعد سنوات من المواجهات العسكرية والتغيرات الإقليمية والدولية، برزت قوى جديدة على الساحة، كان من أبرزها الفصائل المسلحة ذات التوجهات المتشددة، التي تمكنت من فرض نفوذها على أجزاء من البلاد مستفيدةً من حالة الفراغ السياسي وضعف القوى التقليدية الفاعلة. هذا التحول جاء نتيجة عوامل عدة، من بينها الدعم الخارجي لبعض الفصائل، انهيار المؤسسات الرسمية، وتغير التحالفات الإقليمية والدولية التي كانت تدعم أطراف الصراع المختلفة.
هذا الواقع الجديد أثار تساؤلات حاسمة حول مصير البلاد ومستقبل المكونات العرقية والطائفية التي كانت جزءاً أساسياً من النسيج السوري على مدى قرون. ومن بين هذه القضايا، يبرز وضع الكورد، الذين تمكنوا خلال سنوات الحرب من تأسيس إدارة ذاتية في مناطق شرق الفرات. إلا أن هذه الإدارة تواجه تحديات غير مسبوقة، خصوصاً مع صعود قوى جديدة تسعى لإعادة هيكلة السلطة في سوريا وفق رؤى أيديولوجية مختلفة.
وعلى الرغم من التحديات العسكرية والاقتصادية التي تواجهها الإدارة الذاتية، فإنها لا تزال تحظى بدعم جزئي من بعض القوى الإقليمية والدولية، التي ترى في استمرار وجودها عاملاً مهماً للحفاظ على توازن القوى في المنطقة. ومع ذلك، فإن الضغوط العسكرية المتزايدة، إلى جانب الحصار الاقتصادي وغياب الاعتراف الدولي الواسع، يهدد بقاء هذا الكيان، خاصة إذا ما تغيرت التوجهات السياسية للقوى الكبرى وأعيدت صياغة التفاهمات الإقليمية.
أما منطقة شرق الفرات، التي كانت خلال العقد الماضي ساحةً للتنافس بين الولايات المتحدة وروسيا وتركيا، فتواجه اليوم منعطفاً حاسماً. فمع استمرار حالة عدم الاستقرار، ازدادت التدخلات الإقليمية، لا سيما من قبل أنقرة، التي ترى في أي مشروع سياسي كوردي تهديداً لأمنها القومي. وقد دفعها ذلك إلى تكثيف عملياتها العسكرية في الشمال السوري، محاولةً إعادة رسم التوازنات السياسية والعسكرية بما يتماشى مع مصالحها. في المقابل، تعاني الفصائل الكوردية من تحديات داخلية وخارجية، تجعل موقفها أكثر تعقيداً في مواجهة هذه التطورات.
من جهة أخرى، فإن القوى المتشددة التي فرضت سيطرتها على بعض المناطق السورية تدرك أن أي مواجهة مفتوحة مع الكورد قد تؤدي إلى استنزاف قدراتها، وربما فتح الباب أمام تدخلات دولية جديدة. لذلك، تسعى بعض هذه القوى إلى تحقيق تسويات إما عبر محاولات احتواء بعض الفصائل الكوردية أو عبر فرض سياسات تهدف إلى تقويض الإدارة الذاتية بشكل تدريجي، دون اللجوء إلى مواجهة مباشرة قد تكون مكلفة لها على المدى البعيد.
أما على المستوى الدولي، فلا تزال المواقف متباينة، حيث تسعى روسيا إلى تعزيز نفوذها في سوريا عبر تحالفات جديدة، في حين تحافظ الولايات المتحدة، رغم تقليص وجودها العسكري، على دور محدود في بعض المناطق الاستراتيجية، مما يمنحها القدرة على التدخل عند الضرورة للحفاظ على توازن القوى. ومع ذلك، فإن أي تغيير في الإدارة الأميركية أو تبدل في أولويات السياسة الخارجية قد يؤدي إلى تطورات غير متوقعة في المشهد السوري.
في ظل هذه التعقيدات، يبدو أن سوريا تتجه نحو مرحلة جديدة من عدم الاستقرار، حيث لا تزال ملامح المستقبل غامضة في ظل غياب توافق بين القوى الفاعلة على الأرض. الكورد يواجهون خيارات صعبة بين محاولة الحفاظ على مكاسبهم السياسية والإدارية أو الدخول في تسويات قد تؤدي إلى تراجع نفوذهم، في حين تحاول الفصائل المسلحة تثبيت سيطرتها وسط تحديات داخلية وخارجية متزايدة. أما المجتمع الدولي، فلا يزال موقفه غير محسوم، بين دعم بعض الأطراف والتكيف مع واقع جديد تفرضه التطورات المتسارعة في البلاد.