حقوق الكورد بين مفهوم المواطنة والحقوق القومية: قراءة سياسية قانونية
بقلم: د. عدنان بوزان
في ظل المشهد السياسي السوري المتشابك والمعقد، أصبحت مصطلحات مثل "دولة المواطنة"، و"العدالة"، و"المساواة" شعارات متداولة بكثرة بين السياسيين الجدد، أو كما يمكن وصفهم بـ"السياسيين الغفلة". هؤلاء يعتمدون على ترديد شعارات براقة دون إدراك المدلولات العميقة لهذه المصطلحات أو كيفية تطبيقها في سياقات سياسية ومجتمعية معقدة كسوريا. من بين هذه الشعارات، يُطرح مفهوم "دولة المواطنة" وكأنه الحل السحري لجميع المشكلات القومية والعرقية في البلاد، بما في ذلك قضية الشعب الكوردي. لكن، هل تكفي المواطنة وحدها لتحقيق العدالة لشعب يحمل تاريخاً عريقاً وهوية قومية متميزة مثل الكورد؟
أولاً: تفكيك مفهوم "دولة المواطنة":
تشير "دولة المواطنة" إلى دولة تقوم على مبادئ المساواة بين جميع المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية أو الدينية أو الثقافية. إنها دولة تضمن حقوقاً متساوية في القانون وتمنح كل فرد حقوقاً مدنية وسياسية واقتصادية متكافئة.
لكن في السياق السوري، تصبح هذه الفكرة غير كافية ولا تلبي متطلبات الواقع، نظراً لطبيعة الدولة المركزية الأحادية التي حكمت البلاد لعقود. هذه الدولة ارتكزت على إيديولوجيات قومية عربية أو أنظمة استبدادية هدفت إلى تذويب الهويات القومية غير العربية، وعلى رأسها الهوية الكوردية، في إطار هوية واحدة قسرية.
في هذا السياق، يصبح الحديث عن المواطنة كحل لجميع القضايا سطحياً وغير كافٍ. المواطنة تتعامل مع الأفراد على أساس فردي، لكنها لا تعالج الحقوق الجماعية والقومية لشعوب تمتلك تاريخاً وهوية خاصة، مثل الشعب الكوردي.
ثانياً: الشعب الكوردي بين حق المواطنة والحق القومي:
الشعب الكوردي ليس مهاجراً حديث العهد بالأرض السورية، وليس أقلية هامشية يمكن إدماجها عبر قوانين المواطنة فقط. بل هو شعب أصيل يعيش على أرضه التاريخية، وله امتداد تاريخي وثقافي يمتد لآلاف السنين. مناطق مثل الجزيرة السورية، وعفرين، وكوباني، وغيرها تُعرف تاريخياً باسم "كوردستان الغربية " الجزء الملحق بسوريا حسب اتفاقية سايكس بيكو المشؤومة. هذا العمق التاريخي والجغرافي يجعل من حقوق الكورد حقوقاً قومية لا يمكن اختزالها في إطار حقوق المواطنة الفردية.
الفرق الجوهري هنا هو أن المواطنة تعطي الفرد حقوقاً باعتباره مواطناً في الدولة، بينما الحقوق القومية تعترف بوجود شعب أو أمة لها هوية، ولغة، وثقافة، وتطلعات سياسية. الشعب الكوردي لا يطالب فقط بحقوق فردية، بل بحقوق جماعية تضمن هويته القومية، وهذه الحقوق لا يمكن تحقيقها إلا عبر حلول سياسية ودستورية شاملة.
ثالثاً: الحقوق القومية والدستور – ضرورة الاعتراف القانوني:
إن الحقوق القومية للكورد ليست مجرد مطلب سياسي، بل هي قضية دستورية بالدرجة الأولى. إذا كان الحل الحقيقي لقضية الكورد ممكناً، فإنه لا يمكن تحقيقه إلا عبر دستور جديد يعترف بالكورد كشعب أصيل وشريك في الوطن. هذا الاعتراف الدستوري يجب أن يتضمن:
1- الاعتراف باللغة الكوردية كلغة رسمية إلى جانب اللغة العربية.
2- ضمان حقوق التعليم والثقافة والإدارة الذاتية أو إقليم خاص بالكورد في المناطق ذات الغالبية الكوردية.
3- إقرار الشعب الكوردي كقومية ثانية في البلاد، مع حقوق تساوي حقوق القومية العربية.
هذا التوجه الدستوري يضمن التعددية القومية ويضع أساساً لبناء دولة سورية ديمقراطية.
رابعاً: الفيدرالية أو الكونفيدرالية كحل واقعي:
إن النظام الفيدرالي أو الكونفدرالي يمثل الحل الأكثر واقعية وعدالة لقضية الشعب الكوردي في سوريا. النظام الفيدرالي ليس مرادفاً للانفصال، بل هو وسيلة لإدارة التنوع القومي والثقافي ضمن إطار وحدة الدولة.
النظام الفيدرالي يتيح للشعب الكوردي حقوقه القومية وحق إدارة نفسه، وفي الوقت ذاته، يضمن بقاء سوريا كدولة موحدة. من خلال الفيدرالية، يمكن بناء نظام سياسي جديد يقوم على الشراكة الحقيقية بين جميع المكونات القومية، حيث تشارك جميع الأطراف في اتخاذ القرار بشكل متساوٍ.
أي النظام الفيدرالي يضمن للشعب الكوردي حقوقه القومية، وفي الوقت ذاته، يتيح للمكونات الأخرى في سوريا، سواء كانت عربية أو سريانية أو آشورية، أن تشعر بالمساواة والعدالة. من خلال الفيدرالية، يمكن بناء سوريا جديدة تقوم على الشراكة الحقيقية، حيث تكون كل مكونات الشعب شريكة في اتخاذ القرار، وليس مجرد أطراف تخضع لهيمنة مركزية.
خامساً: الحل ضمن إطار وحدة سوريا:
الشعب الكوردي لا يسعى إلى الانفصال عن سوريا، بل يطمح إلى حل عادل لقضيته القومية ضمن إطار الدولة السورية الموحدة. لكن هذه الوحدة يجب أن تكون مبنية على أسس جديدة، تتجاوز الهيمنة المركزية الأحادية وتؤسس لنظام ديمقراطي يعترف بالتعددية القومية.
حل القضية الكوردية ليس فقط ضرورياً للكورد، بل هو مدخل أساسي لإعادة بناء الدولة السورية على أسس العدالة والمساواة. هذا الحل يجب أن يُنظر إليه كخطوة لتحقيق السلام والاستقرار في سوريا.
سادساً: مسؤولية القوى السياسية والإدارة الجديدة:
على القوى السياسية السورية، سواء في المعارضة أو الإدارة القائمة، أن تتبنى خطاباً جديداً يبتعد عن القومية الإقصائية. استخدام مصطلحات مثل "المواطنة" و"المساواة" دون إدراك المعاني العميقة للتنوع القومي هو مجرد شعارات فارغة. ما نحتاجه هو رؤية سياسية شاملة تعترف بالتنوع كقوة إيجابية لبناء الدولة.
خاتمة: نحو عقد اجتماعي جديد:
إن بناء سوريا الجديدة يتطلب عقداً اجتماعياً جديداً يعترف بجميع مكونات الشعب السوري كشركاء متساوين. الشعب الكوردي، كشعب أصيل، يجب أن يكون جزءاً من هذا العقد الاجتماعي، بما يضمن حقوقه القومية والدستورية.
حل القضية الكوردية بطريقة عادلة هو مفتاح الاستقرار وبناء سوريا المستقبل. الفشل في تحقيق ذلك سيبقي التوترات قائمة، أما النجاح فسيشكل بداية لعصر جديد من العدالة والمساواة، حيث تتسع الدولة لجميع أبنائها بمختلف انتماءاتهم.
8/ 1 / 2025