اتفاق قسد والدولة السورية: بين تحديات التنفيذ وفرص الاستقرار
- Super User
- التحاليل السياسية
- الزيارات: 1493
بقلم: د. عدنان بوزان
أولاً: مدخل إلى الاتفاقية وأهميتها:
تعتبر هذه الاتفاقية تطوراً هاماً في المشهد السياسي السوري، فهي تعكس تحولاً في العلاقة بين الدولة السورية والمكون الكوردي، وتفتح الباب أمام حلول أكثر استقراراً للمناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة المركزية. كما أنها تضع أسساً جديدة لمستقبل سوريا من خلال ضمان مشاركة جميع مكونات الشعب السوري في العملية السياسية، وإعادة هيكلة المؤسسات المدنية والعسكرية، ومعالجة قضايا المهجرين وحقوق المواطنة.
ورغم غموض بعض البنود، إلا أن الاتفاق يحمل دلالات استراتيجية مهمة، إذ إنه لأول مرة يتم الاعتراف الرسمي بحقوق الكورد ضمن الدولة السورية، مما يسهم في إنهاء اتهامات الانفصال ويحد من محاولات بعض الجهات توظيف الورقة الكوردية لأهداف خارجية.
ثانياً: تحليل البنود الرئيسية للاتفاقية:
1- ضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة السياسية والإدارية على أساس الكفاءة.
يعد هذا البند من أهم مرتكزات أي حل سياسي مستدام في سوريا، إذ إن التمييز على أسس دينية أو عرقية كان أحد أسباب تآكل الدولة السورية وتفاقم الأزمة. يعزز هذا البند فكرة بناء دولة مواطنة حديثة قائمة على الكفاءة، حيث تتاح الفرص للجميع للمشاركة في الحياة السياسية والإدارية وفقاً لمؤهلاتهم، وليس بناءً على انتماءاتهم الطائفية أو القومية.
هذا المبدأ يتطلب إصلاحات جذرية في النظام السياسي السوري، بما في ذلك تعديل الدستور، وإعادة هيكلة النظام الانتخابي، وإيجاد آليات تضمن نزاهة الانتخابات، ومنع أي محاصصة أو تمييز في مؤسسات الدولة.
2- الاعتراف بالمجتمع الكوردي كمكون أصيل وضمان حقوقه الدستورية.
يُشكل هذا البند سابقة في التاريخ السياسي السوري، حيث لم يتم الاعتراف الدستوري بالكورد سابقاً، بل كانوا يواجهون تهميشاً قانونياً وإدارياً امتد لعقود. إن إدراج هذا البند في الاتفاق يضع الأساس لمشاركة الكورد في الحياة السياسية السورية بشكل فاعل، ويعني ضمان حقوقهم الثقافية والاجتماعية والسياسية، ما يساهم في تحقيق اندماج حقيقي للمجتمع الكوردي في النسيج الوطني السوري.
لكن تبقى مسألة آليات تنفيذ هذا الاعتراف غامضة، هل سيكون هناك تمثيل سياسي خاص بالكورد؟ هل سيتم تضمين لغتهم وثقافتهم في المناهج الدراسية؟ هل سيحصلون على إدارة ذاتية ضمن إطار الدولة المركزية؟ هذه الأسئلة تحتاج إلى تفصيل لاحق لضمان عدم تفريغ هذا البند من مضمونه.
3- وقف إطلاق النار على كافة الأراضي السورية.
يشكل وقف إطلاق النار حجر الأساس لأي عملية سياسية ناجحة، حيث إن استمرار النزاع المسلح يعيق أي جهود للحل السلمي. غير أن فعالية هذا البند تعتمد على التزام جميع الأطراف، وخاصة القوى الخارجية التي تدعم بعض الفصائل المسلحة.
كما أن وقف إطلاق النار سيخلق بيئة أكثر استقراراً تمكن من إعادة الإعمار وعودة المهجرين، لكنه يتطلب مراقبة دولية وضمانات من جميع الأطراف للالتزام به، وهو ما قد يكون تحدياً في ظل تعقيدات المشهد السوري.
4- دمج مؤسسات شمال شرق سوريا المدنية والعسكرية ضمن إدارة الدولة.
يعد هذا البند من أكثر النقاط حساسية، إذ إنه يضع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ضمن منظومة الدولة السورية، ويعني إعادة سيطرة الحكومة على المعابر الحدودية والمطارات وحقول النفط والغاز.
لكن التطبيق الفعلي لهذا البند يحتاج إلى توضيح: هل ستتم إعادة هيكلة قسد ودمجها في الجيش السوري كقوات نظامية؟ أم ستتحول إلى قوة أمنية محلية تحت إشراف الدولة؟ كذلك، فإن مسألة تقاسم العائدات النفطية ستكون محل جدل كبير، إذ إن الإدارة الذاتية كانت تعتمد على هذه الموارد في تمويل عملياتها.
5- ضمان عودة كافة المهجرين وتأمين حمايتهم.
يعد هذا البند من المطالب الملحة للسوريين، خاصة مع وجود ملايين اللاجئين في الخارج والنازحين في الداخل.
غير أن نجاحه مرهون بعدة عوامل، أهمها:
• توفير ضمانات أمنية للمهجرين بعد عودتهم.
• إعادة إعمار البنية التحتية المدمرة.
• إيجاد حلول لقضية الملكيات العقارية، حيث إن الكثير من الممتلكات تعرضت للمصادرة أو الاستيلاء خلال النزاع.
• منع أي عمليات انتقامية أو تصفيات على أسس سياسية أو طائفية.
6- دعم الدولة السورية في مكافحة فلول الأسد والتهديدات الأمنية.
المقصود إرسال قوات قسد إلى الساحل السوري بدلاً من قوات الإدارة العامة التابعة لسلطة دمشق الجديدة، فهذا يشير إلى خطوة استراتيجية ذات طابع عسكري وأمني تهدف إلى إعادة ترتيب الأمن والسيطرة في مناطق حيوية، مثل الساحل السوري، التي كانت تشهد نفوذاً كبيراً للنظام السابق.
هذه النقطة توضح تحولاً جذرياً في كيفية إدارة المناطق الساحلية التي كانت تحت سيطرة قوات الإدارة العامة الغير مرغوب من قبل سكان الساحل. بمعنى آخر، قد يكون هذا التحرك محاولة لإعادة هيكلة قوات الأمن وتحويل السيطرة على بعض المناطق إلى قوات جديدة، مثل قسد، بدلاً من القوات التابعة للسلطة دمشق، التي كانت متهمة بالكثير من الانتهاكات السياسية والحقوقية في الآونة الأخيرة.
- الآثار المحتملة لهذه الخطوة:
• إعادة توزيع القوى العسكرية: إذا كانت قوات قسد ستحل محل الأجهزة الأمنية التابعة لسلطة دمشق في مناطق الساحل، فقد يعني ذلك وضع حد لتدخلات النظام السابق في هذه المناطق، مع منح قوات قسد دوراً فاعلاً في إدارة الأمن العام. وهذا يتطلب مزيداً من التنسيق بين قوات قسد والدولة السورية لضمان استقرار المنطقة.
• إعادة بناء الثقة بين قسد والدولة السورية: إرسال قوات قسد إلى الساحل سيكون بمثابة خطوة نحو تعزيز الثقة بين الكورد والدولة السورية، حيث سيُعتبر هذا تغييراً جوهرياً في كيفية إدارة السلطة المركزية للمناطق التي كانت تُعتبر مناطق نفوذ النظام.
• تحديات أمنية وميدانية: في الواقع، قد تواجه قوات قسد صعوبات كبيرة في إتمام هذه المهمة بسبب تعقيدات الوضع الأمني والميداني في الساحل السوري، الذي لا يخلو من التحديات المرتبطة بالجماعات المتطرفة أو الجماعات المسلحة التي لا تزال تنشط في بعض المناطق. بالإضافة إلى أن هذه الخطوة قد تثير معارضة من بعض القوى المحلية أو الدولية التي لها مصالح في بقاء الوضع على ما هو عليه.
• دور القوى الدولية والإقليمية: إن تغيير القوة الأمنية في هذه المناطق قد يثير ردود فعل من الدول التي تدعم النظام السوري، مثل روسيا وإيران، خاصة إذا كانت قوات قسد ستتخذ خطوات تتعارض مع مصالحهم أو مصالح النظام. على سبيل المثال، قد تتعزز التوترات بين قسد والداعمين العسكريين للنظام إذا كانت هناك محاولة لإعادة تشكيل القوة العسكرية في هذه المناطق بطريقة تتجاوز النظام.
• الأبعاد السياسية والاقتصادية: من الناحية السياسية، قد يُنظر إلى إرسال قوات قسد إلى الساحل على أنه خطوة نحو تعزيز سلطة الدولة السورية على حساب بقايا النظام السابق، ويُمكن أن يؤثر ذلك على التوازنات السياسية داخل الدولة السورية في مرحلة ما بعد الحرب.
عموماً، فإن تعزيز الأمن ومكافحة الجماعات التي تهدد استقرار سوريا يعد أمراً ضرورياً، ولكن يجب أن يتم ذلك ضمن إطار قانوني يضمن العدالة الانتقالية، ولا يتحول إلى عمليات انتقامية أو إقصاء ممنهج لأي طرف سياسي.
7- رفض دعوات التقسيم وخطاب الكراهية.
يشكل هذا البند قاعدة ضرورية لبناء سوريا موحدة، خاصة مع تصاعد النزعات الانفصالية والخطاب الطائفي خلال سنوات الحرب.
غير أن تحقيق ذلك يتطلب:
• تغيير الخطاب الإعلامي الرسمي، بحيث يصبح خطاباً جامعاً بدلاً من أن يكون إقصائياً.
• تعديل المناهج التعليمية لتعزيز مفهوم المواطنة.
• اتخاذ إجراءات قانونية ضد أي دعوات للتمييز أو التحريض الطائفي.
8- تحديد سقف زمني لتنفيذ الاتفاق قبل نهاية العام.
يعد وضع سقف زمني عاملاً إيجابياً، لكنه قد يكون غير واقعي في ظل الظروف الحالية، حيث إن تنفيذ هذه البنود يتطلب خطوات تشريعية وإدارية وعسكرية معقدة، مما يجعل من الصعب تحقيقها بالكامل خلال فترة قصيرة.
ثالثاً: أهمية الاتفاق وتأثيره على المشهد السوري:
يمثل هذا الاتفاق تحولاً كبيراً في العلاقات بين الدولة السورية والمكون الكوردي، كما يحمل تأثيرات إقليمية ودولية، منها:
1- تقليص النفوذ التركي: من خلال تجنب صدام محتمل مع تركيا، وتقليل مخاوف أنقرة من وجود "كيان كوردي مستقل".
2- تحسين صورة الدولة السورية دولياً: إذ إن الاعتراف بالمكون الكوردي ودمج مؤسسات شمال شرق سوريا يعزز موقف دمشق في المفاوضات المستقبلية.
3- تقليل مخاطر الحرب الداخلية: حيث إن الاتفاق يمنع حدوث مواجهة عسكرية بين قسد والجيش السوري، وهو ما يسهم في استقرار المنطقة.
4- إمكانية استقطاب دعم دولي: خاصة من الدول التي كانت تدعم قسد، إذ إنها قد ترى في هذا الاتفاق حلاً يحفظ مصالحها دون الحاجة إلى التدخل المباشر.
رابعاً: تحديات الاتفاق:
رغم أهميته، إلا أن الاتفاق سيواجه تحديات كبيرة، منها:
• رفض بعض القوى المعارضة، التي قد ترى فيه محاولة لإعادة تأهيل النظام السوري.
• عدم وضوح بعض البنود، ما قد يؤدي إلى خلافات أثناء التنفيذ.
• إمكانية تدخل قوى إقليمية، مثل تركيا، التي قد تعارض بعض جوانب الاتفاق.
الخاتمة:
يمثل هذا الاتفاق خطوة مهمة نحو إعادة بناء الدولة السورية على أسس أكثر شمولية، ويعكس بداية مرحلة جديدة في تاريخ البلاد بعد سنوات من الحرب والصراع. ومع ذلك، لا يمكن اعتباره نهاية المطاف أو حلاً نهائياً لجميع التحديات التي تواجه سوريا في المستقبل. إن تنفيذ هذا الاتفاق بنجاح يتطلب تضافر جهود جميع الأطراف المعنية، سواء كانت السلطة السورية أو قوى قسد أو القوى المحلية والإقليمية الأخرى التي لها مصالح في البلاد.
تتوقف فعالية هذا الاتفاق على الإرادة السياسية الحقيقية لجميع الأطراف المعنية، وعلى استعدادهم لتقديم تنازلات متبادلة من أجل تحقيق مصلحة سوريا الوطنية. من الضروري أن يُترجم هذا الاتفاق إلى خطوات عملية على الأرض، تشمل تعزيز الثقة بين مختلف المكونات السورية، وتقديم ضمانات حقيقية لأمن المواطنين، والحفاظ على وحدة البلاد في ظل التنوع العرقي والديني والسياسي الذي تتميز به.
إن تحقيق الاستقرار في سوريا يتطلب أيضاً أن تكون هناك آليات محكمة لمراقبة تنفيذ الاتفاق، مع الاستمرار في دعم القوى المحلية مثل قسد ضمن إطار الدولة السورية لضمان إدماج جميع مكونات المجتمع السوري في العملية السياسية والمشاركة في إدارة شؤون البلاد. كما أن التحديات الأمنية والاقتصادية، بما في ذلك عودة المهجرين وإعادة بناء المؤسسات، تظل من أبرز القضايا التي يجب معالجتها بشكل مستدام.
وفي النهاية، إن التوصل إلى اتفاق شامل بين قسد والدولة السورية لا يُعتبر إنجازاً نهائياً، بل هو جزء من مسار طويل نحو تحقيق السلام والاستقرار في سوريا. ولكن إذا تمت مراعاة جميع هذه العوامل وتوفرت الإرادة السياسية الكافية، قد يُسهم هذا الاتفاق في بناء سوريا جديدة، أكثر استقراراً وعدالة، تحفظ حقوق جميع مواطنيها بمختلف انتماءاتهم العرقية والدينية.