بقلم: د. عدنان بوزان
ليس ثمّة فائدة تُرجى من دولةٍ تحكمها عقلياتٌ لا ترى في الوطن إلا مزرعةً تُحلب أو غنيمةً تُقتسم. دولة قائمة على ثقافة القطيع، حيث تُختزل السياسة في مظاهر شكلية، وتُدار البلاد بعقليةٍ لا تختلف عن نزعة الغاب، حيث ينهش الأقوى، ويُسحق الأضعف تحت سطوة الجهل والتسلط. في مثل هذه الدولة، لا يكون المواطن أكثر من أداةٍ تُستخدم لإضفاء الشرعية على عبث السلطة، ولا يكون الوطن سوى مسرحٍ لمهزلةٍ تتكرر بوجوهٍ مختلفة، لكن بسيناريو واحد يُعيد إنتاج ذاته دون أي تغييرٍ جوهري.
ما جدوى المؤتمرات إن كانت لا تتجاوز كونها استعراضاتٍ شكلية للتجميل أمام العالم؟ لا قيمة لمئات الطاولات المستديرة إن كان المتحاورون لا يرون في الوطن إلا وسيلةً لإدامة سلطتهم، ولا يسمعون إلا صدى أصواتهم. الحقيقة التي يخشاها هؤلاء هي أن الحوار الحقيقي لا يكون بين الطغاة وأنفسهم، بل بين الشعب وسلطته، بين المستضعفين ومن يتسلطون عليهم باسم الدين أو القومية أو حتى "المصلحة الوطنية" المزعومة. كل اجتماعٍ يُعقد في ظل قمع المعارضين ليس سوى تمرينٍ على الخداع، وكل خطابٍ عن الإصلاح في ظل استشراء الفساد ليس إلا محاولةً لتجميل وجهٍ متآكل لم تعد المساحيق تخفي عيوبه.
حين ترفع الدولة شعار الدين، لكنها تسرق قوت الفقراء، فهذا ليس تديناً، بل استغلالٌ مفضوح. حين يتحدث المسؤولون عن الحرية، لكن المعتقلات تعج بالمعارضين، فهذا ليس حواراً، بل قمعٌ مقنّع بواجهةٍ دبلوماسية. وحين يدّعي القادة أنهم يجمعون الفرقاء، لكنهم لا يسمحون بأي صوتٍ خارج عن جوقتهم، فلا يكون الوطن أكثر من سجنٍ كبير تحكمه أقنعةٌ مزيفة. لا فرق بين الاستبداد ببدلةٍ رسمية أو استبدادٍ بلحيةٍ طويلة، فالمضمون واحدٌ مهما اختلف المظهر، والاستغلال يبقى استغلالاً وإن تغيّرت أدواته وشعاراته. كل سلطةٍ تتخذ من الدين غطاءً بينما تمارس النهب والاستبداد ليست إلا صورةً أخرى من الطغيان، وكل نظامٍ يرفع شعارات الديمقراطية بينما يحكم بقبضةٍ حديدية لا يعدو كونه مسخاً سياسياً يتقن ارتداء الأقنعة.
الوطن ليس شعاراً يُرفع، ولا خطاباتٍ تُذاع على الشاشات. الوطن هو الناس، هو العدالة، هو المؤسسات التي تحترم حقوق الإنسان. أما حين يتحول إلى مجرد ساحةٍ يتصارع فيها الذئاب، فلن يُصلح الحال ألف مؤتمرٍ ولا ألف خطبةٍ عصماء. لا وطن حقيقي حين يُختزل في فردٍ أو فئةٍ تحتكر السلطة والثروة، ولا مستقبل لشعبٍ يُراد له أن يبقى قطيعاً يُساق بين خطابٍ دينيٍ مُفرغٍ من مضمونه، وخطابٍ سياسيٍ مشحونٍ بالوعود الكاذبة.
الحقيقة التي يعرفها الجميع، لكنهم يخشون الاعتراف بها، هي أن التغيير لا يأتي من صالونات السلطة، بل من وعي الشعب وإرادته في استعادة وطنٍ اختُزل لسنواتٍ في يد نخبةٍ لا ترى فيه إلا بقرةً تُحلب، أو مسرحاً تُعاد فيه نفس المسرحية، كل مرة بوجوهٍ جديدة ولكن بالنص القديم ذاته. الرهان على منظومةٍ تعيد تدوير نفسها هو رهانٌ خاسر، لأن من يحكم بعقلية القطيع لن ينتج إلا مزيداً من العبث، ومن يسوّق للزيف لن يجني إلا مزيداً من الخراب. السلطة التي تتغذى على الجهل لن تنتج إلا مجتمعاً مغيّباً، والسلطة التي تحترف القمع لن تنتج إلا مواطنين خائفين. وحين يُدار الوطن بمنطق الاستبداد، لا يعود أكثر من سجنٍ كبيرٍ يزداد ضيقه يوماً بعد يوم، حتى ينفجر.