تقسيم سوريا: بين الواقع والتوقعات
بقلم: د. عدنان بوزان
إن الحديث عن تقسيم سوريا ليس جديداً على الساحة السياسية، بل هو موضوع أثار الكثير من الجدل والتوقعات منذ اندلاع الأزمة السورية في 2011. بالنسبة للبعض، التقسيم يبدو مستقبلاً محتماً، ولكن في الحقيقة، إذا أمعنا النظر في الواقع السياسي والعسكري اليوم، نجد أن سوريا قد قُسمت فعلياً، ولكن ليس بالشكل الذي يتخيله الكثيرون. التقسيم الحاصل على أرض الواقع ليس تقسيماً معلناً بخطوط حدودية دولية جديدة، بل هو تقسيم نفوذ بين الدول الكبرى والإقليمية، وهيمنة لأقطاب متصارعة تتنازع السيطرة على البلاد وأجزاءها.
أولاً: شرق الفرات: الهيمنة الأمريكية
شرق الفرات، حيث تتركز معظم ثروات سوريا النفطية والمائية، تحت سيطرة القوات الأمريكية بالتعاون مع قوات سوريا الديمقراطية. هذا الجزء من سوريا يمثل المنطقة الأكثر استقراراً نسبياً، ولكن الاستقرار هنا يظل هشاً ومعتمداً على بقاء الوجود الأمريكي. الولايات المتحدة لم تتخلَ عن أهدافها الاستراتيجية في هذه المنطقة، حيث تسعى لإبقاء شرق الفرات منطقة نفوذ حيوية تُستغل فيها الموارد الطبيعية السورية.
منطقة شرق الفرات تشكل اليوم محوراً أساسياً في الصراع السوري، نظراً لما تتمتع به من ثروات نفطية وزراعية ومائية كبيرة. منذ بداية التدخل الأمريكي في سوريا، أصبحت هذه المنطقة تحت سيطرة القوات الأمريكية بالتعاون مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تعد الشريك المحلي الأساسي للولايات المتحدة في هذه المنطقة. هذا الوجود الأمريكي لا يقتصر فقط على الجانب العسكري، بل يمتد إلى الأبعاد السياسية والاقتصادية، حيث تتحكم واشنطن بشكل غير مباشر في موارد المنطقة، ما يجعلها أحد أهم أدوات الضغط على النظام السوري وحلفائه.
- الثروات الطبيعية والموقع الجغرافي: تتركز في شرق الفرات معظم حقول النفط والغاز الرئيسية في سوريا، مثل حقل العمر وحقل التنك، بالإضافة إلى السدود الكبيرة مثل سد الفرات الذي يوفر المياه والكهرباء لأجزاء واسعة من البلاد. هذه الثروات تجعل المنطقة ذات أهمية استراتيجية قصوى، ليس فقط لسوريا، ولكن أيضاً للدول الكبرى التي تسعى للسيطرة على مصادر الطاقة وتأمين طرق الإمداد.
- التحالف الأمريكي مع قوات سوريا الديمقراطية: تعتبر قوات سوريا الديمقراطية العمود الفقري للوجود الأمريكي في شرق الفرات. هذه القوات، التي يغلب عليها العنصر الكوردي، تمثل الحليف الأساسي لواشنطن في مواجهة تنظيم "داعش"، ولكن العلاقة بين الطرفين تمتد إلى ما هو أبعد من محاربة الإرهاب. الولايات المتحدة تسعى من خلال هذا التحالف إلى إنشاء كيان مستقر نسبياً في شمال وشرق سوريا، يُدار بشكل مستقل عن النظام السوري، ويكون حليفاً استراتيجياً لها في المنطقة.
- الاستقرار الهش والوجود المؤقت: رغم أن شرق الفرات يبدو أكثر استقراراً مقارنة بمناطق النزاع الأخرى في سوريا، إلا أن هذا الاستقرار يظل هشاً ومعتمداً بشكل كبير على بقاء القوات الأمريكية. انسحاب القوات الأمريكية من المنطقة قد يؤدي إلى خلل كبير في توازن القوى، ويفتح الباب أمام صراعات جديدة بين قوات سوريا الديمقراطية وتركيا، أو حتى بين قسد والنظام السوري الذي يسعى لاستعادة السيطرة على كافة الأراضي السورية.
- الأهداف الاستراتيجية الأمريكية: الولايات المتحدة لم تتخلَ عن أهدافها الاستراتيجية في شرق الفرات، فهي ترى في هذه المنطقة عنصراً أساسياً في مواجهة النفوذ الإيراني والروسي في سوريا. بالإضافة إلى ذلك، تسعى واشنطن إلى إبقاء منطقة شرق الفرات منطقة نفوذ حيوية تُستغل فيها الموارد الطبيعية السورية لصالح حلفائها المحليين، ولتحقيق توازن استراتيجي مع القوى المنافسة في الشرق الأوسط.
خلاصة القول، بقاء شرق الفرات تحت الهيمنة الأمريكية يجعل من هذه المنطقة جزءاً لا يتجزأ من لعبة النفوذ الإقليمي والدولي في سوريا. الوجود الأمريكي في هذه المنطقة يعكس مصالح واشنطن الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وهو أيضاً نقطة ارتكاز في تحقيق أهداف أكبر تتعلق بمواجهة النفوذ الروسي والإيراني، وضمان عدم عودة "داعش" إلى السيطرة. لكن في ظل هذا الوضع الهش والمعقد، يبقى السؤال الأهم: إلى متى ستظل الولايات المتحدة قادرة على الحفاظ على هذا الاستقرار المؤقت في شرق الفرات، وما هو المصير الذي ينتظر هذه المنطقة في حال حدوث تغييرات سياسية أو عسكرية مفاجئة؟
ثانياً: الساحل السوري: البيع لروسيا
من المعروف أن روسيا قد تدخلت بشكل حاسم لصالح النظام السوري منذ 2015، ومنذ ذلك الحين أصبحت القوة الرئيسية التي تحدد سياسات دمشق وتحمي نظام الأسد. لكن التدخل الروسي ليس مجرد دعم سياسي وعسكري، بل هو صفقة غير معلنة يُعتقد أنها منحت روسيا السيطرة على الساحل السوري، وهو المنطقة الاستراتيجية الحيوية التي تضم قاعدة حميميم الجوية والموانئ البحرية في طرطوس واللاذقية. هذه السيطرة تمنح روسيا وجوداً دائماً في البحر المتوسط، ما يحقق أهدافها الاستراتيجية العسكرية والاقتصادية في المنطقة.
تدخل روسيا في الحرب السورية عام 2015 كان نقطة تحول رئيسية في مسار الصراع. عبر تدخلها العسكري المباشر لصالح النظام السوري، تمكنت موسكو من تغيير موازين القوى على الأرض لصالح دمشق. لكن الدور الروسي في سوريا لا يقتصر فقط على الدعم العسكري والسياسي، بل يعكس استراتيجية أعمق تهدف إلى تعزيز نفوذ موسكو في منطقة الشرق الأوسط، وتحقيق أهداف طويلة الأمد تتعلق بالسيطرة على المناطق الساحلية السورية.
- الصفقة غير المعلنة: السيطرة الروسية على الساحل السوري: يُعتقد أن التدخل الروسي في سوريا جاء ضمن صفقة غير معلنة بين النظام السوري وموسكو، تمنح الأخيرة السيطرة على الساحل السوري، بما في ذلك قواعد عسكرية حيوية في المنطقة. الساحل السوري، الذي يمتد من طرطوس إلى اللاذقية، يُعد بوابة استراتيجية تطل على البحر المتوسط. هذه المنطقة لم تكن فقط مفتاحاً لبقاء النظام السوري، بل أصبحت محوراً رئيسياً للنفوذ الروسي في المنطقة.
من خلال قاعدة حميميم الجوية والموانئ البحرية في طرطوس، تمتلك روسيا وجوداً عسكرياً دائماً على البحر المتوسط. حميميم تُعد أكبر قاعدة جوية روسية خارج حدود روسيا، وتستخدمها موسكو لإطلاق عملياتها العسكرية في سوريا والمنطقة. كما أن الموانئ السورية في طرطوس تمنح روسيا منفذاً بحرياً استراتيجياً يمكّنها من تعزيز قدراتها البحرية في شرق البحر المتوسط.
- الأبعاد العسكرية والاستراتيجية للوجود الروسي: الوجود الروسي في الساحل السوري ليس مجرد دعم عسكري للنظام السوري، بل يتجاوز ذلك ليشمل أهدافاً استراتيجية تتعلق بتعزيز النفوذ الروسي في الشرق الأوسط. من خلال السيطرة على الساحل السوري، ضمنت روسيا لنفسها موطئ قدم دائم في البحر المتوسط، وهو ما يمثل جزءاً من استراتيجيتها لتعزيز قوتها البحرية في مواجهة القوى الغربية، خاصة الولايات المتحدة وحلف الناتو.
إضافة إلى ذلك، يوفر الساحل السوري لروسيا نقطة انطلاق لأي عمليات عسكرية مستقبلية في المنطقة، سواء في سوريا أو خارجها. الوجود الدائم في حميميم وطرطوس يُعد جزءاً من استراتيجية موسكو لتأمين مصالحها في المنطقة والحفاظ على تأثيرها في ملفات الصراع الإقليمي.
- الأبعاد الاقتصادية والموارد: بجانب الأهداف العسكرية، تأتي الأبعاد الاقتصادية كجزء من هذه الصفقة غير المعلنة. الساحل السوري يضم بعض من أهم البنى التحتية البحرية والتجارية في البلاد، ما يوفر لروسيا إمكانيات كبيرة لتوسيع نفوذها الاقتصادي. من خلال الاتفاقيات الثنائية مع النظام السوري، استحوذت روسيا على عقود طويلة الأمد لاستثمار موارد الغاز والنفط السورية البحرية، ما يعزز نفوذها الاقتصادي والسياسي في البلاد.
- الدور الروسي في السياسة السورية: على الرغم من أن الوجود الروسي في الساحل السوري يتسم بالطابع العسكري والاقتصادي، إلا أن موسكو تلعب أيضاً دوراً سياسياً رئيسياً في تحديد سياسات النظام السوري. روسيا تعتبر نفسها الضامن الرئيسي لبقاء النظام، وفي المقابل تلتزم دمشق بالتوافق مع المصالح الروسية. هذا النفوذ السياسي يجعل موسكو اللاعب الرئيسي في أي تسوية سياسية مستقبلية للصراع السوري.
- ماذا يعني ذلك لمستقبل سوريا؟: السيطرة الروسية على الساحل السوري تمثل جزءاً من المشهد الجديد الذي يتشكل في سوريا بعد سنوات من الحرب. روسيا قد لا تعلن عن هذا النفوذ بشكل صريح، ولكن الواقع يعكس صفقة غير معلنة تجعل الساحل السوري منطقة نفوذ خالصة لموسكو. هذه السيطرة تعني أن روسيا ستكون حاضرة في أي ترتيبات مستقبلية تتعلق بسوريا، سواء كانت ترتيبات سياسية أو اقتصادية، ما يضمن لها دورًا محوريًا في تحديد مستقبل البلاد.
في الختام، بيع الساحل السوري لروسيا، وإن كان غير معلن رسمياً، يمثل حقيقة واقعة تعزز من حضور موسكو الاستراتيجي في المنطقة. هذا الوجود الدائم يتيح لروسيا تحكماً كبيراً في السياسة السورية ومستقبلها، ويضمن لموسكو موطئ قدم عسكري واقتصادي طويل الأمد على البحر المتوسط. وفي ظل هذا الواقع، يتبادر السؤال: هل سيظل الساحل السوري تحت الهيمنة الروسية إلى أجل غير مسمى، أم أن التغييرات الجيوسياسية المستقبلية قد تعيد رسم خارطة النفوذ في المنطقة؟
ثالثاً: الداخل السوري: النفوذ الإيراني
إيران هي الأخرى تلعب دوراً حاسماً في سوريا، حيث تعمل على توسيع نفوذها في دمشق وبعض مناطق الداخل السوري. من خلال دعم الميليشيات الشيعية وتواجد الحرس الثوري الإيراني، تحكم إيران سيطرتها على مساحات شاسعة من الأراضي السورية. يُعتبر هذا الوجود جزءاً من استراتيجيتها لتأمين الممر البري الممتد من طهران إلى بيروت عبر العراق وسوريا. إذن، دمشق ومحيطها تحت سيطرة فعلية لإيران وحلفائها المحليين، ما يجعلها منطقة نفوذ خاصة بها.
منذ بداية الصراع السوري، لعبت إيران دوراً حاسماً في دعم نظام بشار الأسد، سواء من خلال تقديم الدعم المالي والعسكري، أو من خلال تسهيل دخول ميليشيات شيعية من دول متعددة إلى الأراضي السورية. تركز النفوذ الإيراني بشكل خاص في دمشق وبعض مناطق الداخل السوري، حيث استطاعت طهران فرض سيطرتها عبر تواجد مكثف للحرس الثوري الإيراني وميليشياتها الموالية.
- الميليشيات الشيعية والحرس الثوري: أدوات إيران في الداخل السوري: منذ اللحظات الأولى للصراع السوري، قامت إيران بإرسال الحرس الثوري وميليشيات شيعية من لبنان (حزب الله) والعراق وأفغانستان وباكستان لدعم قوات النظام السوري. هذه الميليشيات أصبحت جزءاً لا يتجزأ من آلة الحرب السورية، واستطاعت تأمين مناطق واسعة في الداخل السوري، بما في ذلك العاصمة دمشق، التي تعتبر المحور السياسي والاستراتيجي للنظام.
الوجود الإيراني لا يقتصر على الميليشيات فقط؛ فقد أنشأت إيران العديد من القواعد العسكرية في المناطق الداخلية، بما في ذلك قواعد حول دمشق، لتعزيز نفوذها ولضمان بقاء النظام السوري حليفاً قوياً لها في المنطقة. هذا التواجد يُعتبر جزءاً من استراتيجية إيرانية أوسع تهدف إلى تأمين ممر بري يصل بين طهران وبيروت مروراً بالعراق وسوريا، وهو ما يعزز قدرتها على نقل الأفراد والأسلحة ودعم حزب الله في لبنان.
- دمشق: العاصمة تحت السيطرة الإيرانية: العاصمة دمشق تعتبر من أهم المناطق التي تعمل إيران على تأمينها، إذ أنها تمثل المركز السياسي للنظام السوري. من خلال دعم مباشر للنظام وتواجد عسكري كثيف، استطاعت إيران ترسيخ نفوذها في دمشق وضواحيها، بما في ذلك الغوطة الشرقية، التي شهدت معارك ضارية قبل استعادتها من قبل قوات النظام بدعم من الميليشيات المدعومة من إيران.
النفوذ الإيراني في دمشق يتجاوز الجانب العسكري؛ فطهران تسعى أيضاً لبسط سيطرتها على الاقتصاد والمجتمع. لقد قامت بشراء العقارات والأراضي في مناطق رئيسية من العاصمة، كما عملت على نشر الثقافة الشيعية من خلال بناء الحسينيات والمراكز الدينية. هذه التحركات تعكس رغبة إيران في ترسيخ وجودها على المدى الطويل.
- الاستراتيجية الإيرانية: تأمين الممر البري: الوجود الإيراني في الداخل السوري هو جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى تأمين ممر بري يصل بين إيران ولبنان عبر العراق وسوريا. هذا الممر يعتبر شرياناً حيوياً لإيران، حيث يمكنها من نقل الأفراد والأسلحة والعتاد إلى حلفائها في المنطقة، بما في ذلك حزب الله في لبنان. السيطرة على الداخل السوري تتيح لإيران الحفاظ على هذا الممر وتضمن استمرار تدفق الدعم لحلفائها الإقليميين.
- النفوذ الثقافي والديني: تعزيز التواجد الإيراني: إلى جانب الأبعاد العسكرية، تعمل إيران على تعزيز نفوذها الثقافي والديني في الداخل السوري. من خلال دعم المراكز الدينية الشيعية وبناء الحسينيات، تسعى طهران إلى نشر الفكر الشيعي وتعزيز التبعية الدينية والسياسية للنظام الإيراني. هذه الجهود جزء من محاولات إيران لإضفاء طابع ديني على وجودها في سوريا، ما يعزز من قدرتها على السيطرة على المجتمع السوري على المدى الطويل.
- مستقبل النفوذ الإيراني في الداخل السوري: على الرغم من النجاحات التي حققتها إيران في تأمين نفوذها في الداخل السوري، يبقى هذا الوجود مهدداً في المستقبل. التنافس مع روسيا، القوة الأخرى المسيطرة في سوريا، قد يؤدي إلى تضارب في المصالح، خاصة في ظل محاولة موسكو فرض سيطرتها على قطاعات معينة من الدولة السورية. إضافة إلى ذلك، الضغوط الدولية على إيران، سواء من قبل الولايات المتحدة أو إسرائيل، قد تؤثر على قدرتها على الحفاظ على نفوذها بنفس القوة.
في الختام، النفوذ الإيراني في الداخل السوري، وخصوصاً في دمشق ومحيطها، يعكس استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى ترسيخ سيطرة طهران على مفاصل الدولة السورية وتأمين ممر بري يصل بين إيران ولبنان. من خلال دعم الميليشيات الشيعية وتواجد الحرس الثوري، تحكم إيران سيطرتها على مناطق واسعة، ما يجعلها لاعباً أساسياً في مستقبل سوريا. السؤال المطروح هنا: هل ستتمكن إيران من الحفاظ على نفوذها في ظل التنافس مع القوى الإقليمية والدولية الأخرى، أم أن المتغيرات الجيوسياسية ستعيد رسم خارطة النفوذ في الداخل السوري؟
رابعاً: جنوب سوريا: النفوذ الإسرائيلي
في جنوب سوريا، تظل إسرائيل لاعباً غير مباشر، لكن مؤثراً. تقوم إسرائيل بتنفيذ ضربات جوية منتظمة تستهدف مواقع تابعة لإيران وحزب الله في سوريا، بهدف منع تمدد النفوذ الإيراني بالقرب من حدودها. وعلى الرغم من أن النظام السوري يحاول الحفاظ على مظهر السيادة في هذه المناطق، إلا أن الطيران الإسرائيلي يمارس هيمنته الجوية بشكل يكاد يكون مطلقاً في الجنوب السوري.
جنوب سوريا يمثل منطقة ذات حساسية استراتيجية بالنسبة لإسرائيل، والتي تنظر إلى هذه المنطقة بوصفها مجالاً حيوياً لأمنها القومي. منذ اندلاع الحرب السورية، تحولت هذه المنطقة إلى مسرح للصراعات الإقليمية، وأصبحت بؤرة اهتمام إسرائيلي بسبب الوجود الإيراني المتزايد ونشاط ميليشيات حزب الله فيها. وعلى الرغم من أن إسرائيل ليست لاعباً مباشراً في الحرب السورية، إلا أنها تؤدي دوراً محورياً من خلال ضرباتها الجوية المستمرة، التي تستهدف مواقع تابعة لإيران وحزب الله، بهدف منع تمدد نفوذهم بالقرب من حدودها.
- الضربات الجوية الإسرائيلية: استراتيجية منع التمدد الإيراني: تتبنى إسرائيل منذ سنوات استراتيجية عسكرية تقوم على تنفيذ ضربات جوية منتظمة في سوريا، تستهدف من خلالها البنية التحتية العسكرية الإيرانية وشحنات الأسلحة التي تصل إلى حزب الله. هذه الضربات تهدف إلى تقويض قدرة إيران على إنشاء قواعد عسكرية دائمة بالقرب من الحدود الإسرائيلية، إضافة إلى منع نقل الأسلحة المتطورة إلى حزب الله في لبنان.
الهجمات الإسرائيلية، التي تُنفذ غالباً دون إعلان رسمي، تستهدف مواقع مختلفة تشمل قواعد عسكرية ومستودعات أسلحة ومراكز لوجستية، وتؤدي إلى تدمير البنية التحتية الإيرانية المتنامية في سوريا. ورغم محاولات النظام السوري الرد على هذه الهجمات عبر الدفاعات الجوية، إلا أن قدرة إسرائيل على تنفيذ عملياتها الجوية بفاعلية تعكس سيطرتها الجوية الكاملة على جنوب سوريا.
- النظام السوري: سيادة محدودة في الجنوب: النظام السوري يحاول الحفاظ على مظهر السيادة في المناطق الجنوبية، ولكن الضربات الإسرائيلية المتكررة تُظهر حدود هذه السيادة. فعلى الرغم من وجود القوات الحكومية في هذه المناطق، إلا أن إسرائيل تمكنت من فرض قواعد اشتباك جديدة تُجبر النظام السوري على القبول بوجودها العسكري غير المباشر من خلال استهداف الميليشيات الإيرانية. النظام السوري لا يستطيع مواجهة إسرائيل عسكرياً بسبب التفاوت الكبير في القدرات، ولا يستطيع إنهاء الوجود الإيراني خوفاً من فقدان دعم طهران الحيوي لبقائه.
- الوجود الإيراني في الجنوب: مصدر قلق لإسرائيل: السبب الرئيسي الذي يدفع إسرائيل إلى تكثيف ضرباتها الجوية في جنوب سوريا هو الوجود الإيراني المتزايد. إيران، من خلال دعمها للميليشيات الشيعية مثل حزب الله، تسعى إلى ترسيخ نفوذها بالقرب من الجولان، وهو ما يشكل تهديداً مباشراً للأمن الإسرائيلي. بالنسبة لإسرائيل، فإن وجود قواعد عسكرية أو بنى تحتية إيرانية في جنوب سوريا يمثل خطاً أحمر، ولذلك تواصل عملياتها العسكرية لمنع تحقيق هذا السيناريو.
إسرائيل تدرك أن النفوذ الإيراني في جنوب سوريا يهدف إلى إنشاء جبهة جديدة في الصراع مع إسرائيل، إضافة إلى تعزيز قدرة حزب الله على تهديدها من الجهة الشمالية. لهذا السبب، تعمل إسرائيل على استهداف أي محاولة من قبل إيران لتطوير بنية تحتية عسكرية في هذه المنطقة.
- التعاون الضمني مع القوى الدولية والإقليمية: على الرغم من أن إسرائيل لا تتواجد بشكل رسمي على الأرض في جنوب سوريا، إلا أن عملياتها العسكرية تحظى بدعم أو بتغاضي ضمني من بعض القوى الدولية والإقليمية. الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تدعم جهود إسرائيل في مواجهة النفوذ الإيراني في سوريا، نظراً لأن هذه العمليات تتوافق مع أهدافها في تقويض النفوذ الإيراني في المنطقة. كما أن روسيا، رغم تحالفها مع النظام السوري وإيران، لم تمنع إسرائيل من تنفيذ ضرباتها، وهو ما يعكس توافقاً غير مباشر بين الطرفين حول عدم السماح لإيران بتوسيع نفوذها بالقرب من إسرائيل.
- مستقبل جنوب سوريا: بين النفوذ الإسرائيلي والإيراني: في المستقبل القريب، يبدو أن جنوب سوريا سيظل ساحة للصراع بين النفوذ الإيراني والإسرائيلي. إسرائيل ستستمر في اتباع استراتيجيتها الوقائية عبر الضربات الجوية، ما دام الوجود الإيراني يشكل تهديداً لها. في المقابل، إيران ستسعى إلى تعزيز وجودها، ولكن دون الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، التي تتمتع بقدرات عسكرية متفوقة.
في الختام، جنوب سوريا يشكل ساحة نفوذ إسرائيلي غير مباشر، حيث تسعى إسرائيل إلى منع تمدد النفوذ الإيراني وحزب الله بالقرب من حدودها عبر ضربات جوية منتظمة وفعالة. على الرغم من محاولة النظام السوري الحفاظ على مظهر السيادة في هذه المناطق، إلا أن الهيمنة الجوية الإسرائيلية تجعل من الصعب على دمشق أو حلفائها الإيرانيين تعزيز تواجدهم العسكري هناك. وفي ظل هذه التوترات المستمرة، يبقى جنوب سوريا منطقة مشتعلة توازن فيها إسرائيل بين احتواء التهديدات الإيرانية وضمان أمنها القومي.
خامساً: شمال سوريا: الهيمنة التركية
أما في شمال سوريا، فالتدخل التركي يتم بالتواطؤ مع بعض فصائل المعارضة السورية التي أصبحت تدور في فلك السياسات التركية. تركيا تسعى إلى تأمين حدودها الجنوبية عبر إنشاء منطقة عازلة تخضع لنفوذها المباشر أو غير المباشر. هذه المنطقة الممتدة من جرابلس حتى عفرين وبعض المناطق المتقطعة مثل تل أبيض ورأس العين في شرق الفرات شهدت تدخلاً عسكرياً تركياً كبيراً منذ 2016، وأصبحت جزءاً من لعبة المصالح التركية التي تتداخل مع أجنداتها المحلية والإقليمية.
في شمال سوريا، يعد التدخل التركي واحداً من أبرز التحولات في مسار الصراع السوري، إذ باتت تركيا تسيطر على مساحات شاسعة من هذه المنطقة بالتعاون مع فصائل المعارضة السورية الموالية لها. الهدف الأساسي لتركيا هو تأمين حدودها الجنوبية ومنع تواجد أي قوة معادية، خاصة قوات سوريا الديمقراطية التي تعتبرها تركيا امتداداً لحزب العمال الكردستاني المصنف كمنظمة إرهابية لديها.
- التدخل التركي: بناء المنطقة العازلة: منذ عام 2016، شنت تركيا عدة عمليات عسكرية داخل الأراضي السورية، مثل "درع الفرات"، "غصن الزيتون"، و"نبع السلام"، بغية السيطرة على مناطق تمتد من جرابلس إلى عفرين، وتضم أيضاً أجزاء من تل أبيض ورأس العين شرق الفرات. هذه العمليات أفضت إلى إنشاء ما يشبه منطقة عازلة تحت النفوذ التركي المباشر أو عبر الفصائل السورية المتحالفة معها. هذه المنطقة تُدار من خلال ما يسمى "المجالس المحلية"، ولكن الواقع يظهر أن القرار الفعلي فيها يتم تحت الإشراف التركي.
- أهداف تركيا: أمن الحدود والتوسع الإقليمي: التدخل التركي في شمال سوريا جاء نتيجة لمزيج من العوامل الأمنية والسياسية. فعلى المستوى الأمني، تهدف تركيا إلى منع أي وجود كوردي مسلح قرب حدودها، خشية من ارتباط قوات سوريا الديمقراطية بحزب العمال الكردستاني. وعلى المستوى السياسي، تسعى تركيا إلى بسط نفوذها الإقليمي في المنطقة، والاستفادة من الفوضى التي سببتها الحرب السورية لتعزيز مصالحها.
المنطقة التي تسيطر عليها تركيا اليوم تشمل مدناً استراتيجية مثل جرابلس، عفرين، وتل أبيض، حيث أدخلت تركيا مؤسساتها الأمنية والخدمية، كما أن التعليم يُدرّس باللغة التركية، والعملة التركية هي المستخدمة، مما يعزز فكرة "التتريك" التدريجي لهذه المناطق.
- تواطؤ المعارضة: تحول الفصائل إلى أداة تركية: على الرغم من أن المعارضة السورية بدأت كقوة تسعى لإسقاط النظام السوري، إلا أن جزءاً كبيراً من هذه الفصائل، خاصة في شمال سوريا، أصبح يعتمد بشكل كامل على الدعم التركي. تركيا نجحت في تحويل هذه الفصائل إلى أداة لتحقيق أهدافها الخاصة في سوريا، مما أضعف قدرة المعارضة على اتخاذ قرارات مستقلة عن السياسات التركية.
فصائل مثل "الجيش الوطني السوري" تعمل تحت مظلة تركيا وتقاتل إلى جانبها في عملياتها العسكرية. هذا التحالف بين تركيا والفصائل المعارضة يعزز هيمنة أنقرة على المنطقة، ويُظهر أن دور المعارضة لم يعد محصوراً في مواجهة النظام السوري، بل أصبح جزءاً من الصراع الإقليمي الأكبر الذي تخوضه تركيا في سوريا.
- التحديات الاقتصادية والديموغرافية: بالإضافة إلى الأهداف العسكرية والأمنية، تسعى تركيا إلى تغيير التركيبة السكانية في شمال سوريا من خلال عمليات تهجير وتوطين للسكان. تركيا تعمل على نقل عشرات الآلاف من اللاجئين السوريين المقيمين على أراضيها إلى المناطق التي تسيطر عليها في شمال سوريا، مما يخلق نوعاً من التغيير الديموغرافي الذي يخدم مصالحها.
هذه السياسة لا تعزز فقط نفوذ تركيا في المنطقة، بل تهدف أيضاً إلى تخفيف العبء الاقتصادي والسياسي الناتج عن استضافة أكثر من 3.6 مليون لاجئ سوري على أراضيها.
- التداخل مع القوى الأخرى: التوازن الهش: وجود تركيا في شمال سوريا لا يعني غياب تداخل مصالح قوى أخرى في المنطقة. فالولايات المتحدة، روسيا، وإيران، جميعها لديها أجندات مختلفة في سوريا، ولكن تركيا نجحت في التفاوض مع هذه الأطراف لتحقيق أهدافها الخاصة.
في بعض الأحيان، تم التوصل إلى اتفاقات مع روسيا، التي تسيطر على أجزاء من شمال غرب سوريا، للسماح باستمرار العمليات التركية، بينما تستمر تركيا بالتنسيق مع الولايات المتحدة بشأن وجودها في شرق الفرات. هذه التفاهمات تُظهر أن التدخل التركي هو جزء من اللعبة الكبرى التي تُلعب على الأرض السورية بين القوى الإقليمية والدولية.
في الختام، شمال سوريا أصبح تحت هيمنة تركيا التي تسعى إلى تأمين حدودها الجنوبية من خلال إنشاء منطقة نفوذ تابعة لها. التدخل التركي يستند إلى أهداف أمنية وسياسية تتعلق بمنع التوسع الكوردي وتعزيز النفوذ التركي في المنطقة. في ظل تواطؤ بعض فصائل المعارضة، تتحول المنطقة إلى ساحة لمصالح أنقرة التي تدير شمال سوريا وكأنه امتداد لها، مع استمرار التحديات الاقتصادية والديموغرافية التي تعزز من طموحاتها التوسعية.
ماذا ينتظر سوريا في المستقبل؟
كل هذه الأطراف المتداخلة تنتظر توافقاً سياسياً أو توقيعاً من النظام السوري بقيادة بشار الأسد لتقسيم سوريا بشكل قانوني وشرعي، أو على الأقل لتأمين اعتراف دولي بهذه "الخرائط الجديدة". لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن أن يتم هذا التقسيم بشكل رسمي، وهل بقي شيء من سوريا ليتم تقسيمه؟
سوريا اليوم ليست أكثر من مساحات نفوذ متعددة، تُسيطر عليها القوى الكبرى والإقليمية عبر وكلائها المحليين، ما يجعل فكرة سوريا الموحدة التي عرفناها قبل 2011 من الماضي. ورغم أن النظام السوري لا يزال يُعلن سيادته على كامل الأراضي السورية، إلا أن الواقع يروي قصة مختلفة تماماً. فما يُنتظر في المستقبل هو تسوية دولية قد تجعل هذا التقسيم أمراً واقعاً وشرعياً.
الخاتمة: ما الذي بقي من سوريا؟ عند النظر إلى المشهد السوري الحالي، يمكن القول إن سوريا تم تقسيمها عملياً، لكن ليس وفق الخطوط التقليدية لتقسيم الدول. سوريا مقسمة بين مصالح الدول الكبرى والإقليمية، واللاعبون على الساحة السورية لا ينتظرون سوى اللحظة المناسبة لتكريس هذا الواقع بشكل رسمي. في ظل هذا الواقع المعقد والمتشابك، يبقى السؤال: هل يستطيع الشعب السوري أن يستعيد دولته الموحدة أم أن التقسيم أصبح حتمية لا مفر منها؟