الكورد في سوريا والمنطقة: آمال وصراعات في ظل التحولات السياسية

بقلم: د. عدنان بوزان

منذ بداية الحرب السورية، كان للكورد السوريين دور محوري في المشهد السياسي والعسكري. في ظل التوترات والصراعات العميقة التي اجتاحت سوريا، سعى الكورد إلى الحفاظ على مكانتهم جزءاً من النسيج الوطني السوري، رغم الضغوطات والمستجدات السياسية والعسكرية التي كانت تتعرض لها المنطقة. كان الهدف الأساسي للكورد السوريين هو بناء حكومة ديمقراطية لامركزية تضمن لهم وللشعب السوري بشكل عام العيش في سلام واستقرار، بعيداً عن التفكك والصراعات الطائفية.

- الكورد في سوريا: تمسك بالوحدة الوطنية والسعي للسلام

على الرغم من أن الكورد في سوريا تعرضوا لظروف قاسية في ظل حكم النظام البعثي، إلا أن سعيهم للبقاء جزءاً من سوريا ظل ثابتاً. الكورد السوريون لا يسعون إلى انفصال كامل عن الوطن الأم، بل يطالبون بحكم ذاتي ضمن وحدة سوريا، على أن تكون هذه الحكومة ديمقراطية لامركزية تضمن حقوق جميع المكونات السورية بما في ذلك العرب العلويين والدروز والسنة، الكورد، المسيحيين، والتركمان، في احترام متبادل وتعاون بناء.

ومع ذلك، فإن هذا الطموح يواجه تحديات كبيرة، أبرزها العقلية العنصرية العروبية والجهادية التي ما زالت تسيطر على بعض الأطراف في الحكومة السورية الساقطة والجديدة وكذلك بعض القوى الإقليمية. هذه العقلية، التي تهدف إلى تفكيك سوريا وتقسيمها إلى دويلات على أسس عرقية أو طائفية، تجعل من الصعب تحقيق التوافق بين مختلف مكونات الشعب السوري. في هذا السياق، تبقى المسألة الكوردية حجر عثرة في وجه هذه التوجهات التدميرية، إذ يحاول الكورد السوريون تقديم نموذج للتعايش السلمي الذي يراعي التنوع العرقي والثقافي في سوريا.

- التحولات القادمة: وعي إقليمي ودولي ودعم مستمر للكورد

ورغم ما يواجهه الكورد من تحديات على الأرض، يبدو أن المستقبل يحمل في طياته العديد من المفاجآت. على الرغم من الضغوط الإقليمية والدولية، فإن فكرة الدولة الكوردية تتصاعد تدريجياً في الوعي السياسي الكوردي والدولي، وقد أصبحت حقيقة واقعة في العديد من الدول المحيطة بسوريا، مثل العراق وتركيا وإيران. هذا التوجه قد يتطور ليشمل مناطق أخرى في المستقبل القريب.

تركيا تدرك تماماً هذه التحولات وتسعى للتعامل معها بحذر. فهي تحاول إيجاد حل يمكنها من مواجهة هذا الواقع الجديد بأقل الخسائر، خاصة فيما يتعلق بالأمن القومي التركي. ومع ذلك، فإن الحلول التركية ما زالت تركز على منع أي تحول من شأنه أن يقوي الكورد في سوريا على حساب مصالح أنقرة. ومن هنا تأتي محاولات تركيا لتقديم حلول جزئية، مثل التفاوض مع بعض الأحزاب والفصائل الكوردية، على أمل الوصول إلى اتفاق يحقق توازناً في المنطقة.

- دور إقليم كوردستان العراق: تسوية الوضع في العراق ودعم غربي قوي

في نفس السياق، لا يمكن إغفال الدور الذي يلعبه إقليم كوردستان العراق في هذه التحولات. سكوت الإقليم لم يكن مجرد موقف عابر أو غير محسوب، بل هو جزء من استراتيجية متكاملة تراعي التوازنات الإقليمية والدولية. إقليم كوردستان العراق، الذي حقق مكاسب كبيرة في مجال الحكم الذاتي، يتلقى دعماً غربياً قوياً لضمان تسوية الوضع في العراق بشكل يحقق الاستقرار لجميع المكونات، بما في ذلك الكورد. هذه التحولات السياسية في العراق تتزامن مع التغيرات في سوريا، ما يعزز الموقف الكوردي في كلا البلدين ويعطيهم حافزاً قوياً لتحقيق المزيد من الحقوق والسيادة في إطار نظام فدرالي أو لامركزي يعزز الاستقرار ويضمن الحقوق للجميع.

- الدور الأمريكي في المستقبل السوري: دعم مستمر للكورد

من المتوقع أن يظل الدور الأمريكي في سوريا محورياً في السنوات القادمة، خصوصاً فيما يتعلق بدعم الكورد السوريين، لا سيما في منطقة شرق الفرات. الولايات المتحدة تعتبر الكورد حلفاء استراتيجيين لا غنى عنهم في مكافحة الإرهاب، وخاصة تنظيم "داعش"، الذي كان يشكل تهديداً كبيراً للأمن الإقليمي والدولي. وقد أثبت الكورد في سوريا، من خلال قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، أنهم شركاء قادرون على تنفيذ عمليات مكافحة الإرهاب بشكل فعال، وهو ما جعلهم حليفاً رئيسياً في الحرب ضد التنظيمات المتشددة. لذا، فإن دعمهم يمثل مصلحة استراتيجية للأمريكيين في المنطقة.

إن العلاقات بين الولايات المتحدة والكورد في سوريا تتجاوز مجرد التعاون العسكري؛ فهي مبنية على مصالح مشتركة في استقرار المنطقة والحفاظ على توازن القوى. الولايات المتحدة تدرك أن منطقة شرق الفرات تمثل نقطة مفصلية في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي ومنع المزيد من الفوضى، ولذلك فهي مصممة على دعم الكورد في تحقيق تطلعاتهم السياسية وحقوقهم الثقافية. هذه العلاقات لم تقتصر على الدعم العسكري فحسب، بل شملت أيضاً دعماً سياسياً واقتصادياً، مما يعزز موقف الكورد في أي تسوية سياسية مستقبلية.

من الواضح أن الخريطة السياسية في سوريا والمنطقة ككل تتغير بشكل مستمر، لكن الاتجاه العام يشير إلى أن الدعم الغربي للكورد سيستمر في المدى الطويل. هذا الدعم قد يتخذ أشكالاً متعددة، من تقديم المساعدات الاقتصادية والإنمائية إلى التأثير في صياغة أي حل سياسي مقبل. في المستقبل القريب، من الممكن أن يسهم ذلك في تعزيز استقلالية الكورد في مناطقهم، وتوسيع مساحة حكمهم الذاتي ضمن إطار نظام فيدرالي أو لامركزي، يضمن لهم حقوقهم ويعزز من استقرار المنطقة ككل.

من جهة أخرى، يبدو أن الولايات المتحدة غير مستعدة للتخلي عن نفوذها في سوريا، وخاصة في المناطق التي يسيطر عليها الكورد. هذا النفوذ ليس فقط لحماية المصالح الأمريكية، بل أيضاً للضغط على القوى الإقليمية والدولية لضمان أن أية تسوية سياسية مستقبلية تأخذ في الاعتبار حقوق الكورد وحقوق المكونات الأخرى في سوريا. بالإضافة إلى ذلك، فإن الدعم الأمريكي للكورد يمكن أن يكون بمثابة رافعة لتحقيق توازن أكبر في المنطقة، خاصة في ظل التهديدات التركية والأوضاع المعقدة في العراق.

إن المواقف الأمريكية تشير إلى أن واشنطن ستستمر في دعم الكورد سياسياً وعسكرياً في إطار عملية بناء المستقبل السوري، وهذا الدعم قد يشكل أحد العوامل الحاسمة في تحقيق تسوية سياسية شاملة. في الوقت ذاته، سيبقى الكورد في سوريا جزءاً لا يتجزأ من هذا النظام السياسي الجديد، الذي من المتوقع أن يكون قائماً على مبادئ الديمقراطية والتعددية، مع التأكيد على الحقوق المتساوية لجميع مكونات الشعب السوري.

- أما عن زيارات الوفود إلى دمشق والتوجهات الإقليمية

بالنسبة لزيارات الوفود إلى دمشق، خاصة من تركيا والدول العربية، فإنها تحمل في طياتها رسائل متعددة وتأتي في إطار محاولات لتأجيل الوضع في سوريا إلى ما بعد أربع سنوات، على أمل أن تتمكن هذه الأطراف من معالجة الأزمة بطريقة تضمن عدم تقسيم سوريا أو تفككها. هذه الزيارات تأتي في وقت حساس للغاية، حيث تسعى بعض الدول الإقليمية إلى إيجاد حلول تحفظ مصالحها وتحقق استقراراً مؤقتاً دون الانجرار إلى المزيد من الفوضى.

تركيا، على سبيل المثال، تسعى للحفاظ على استقرار المنطقة مع ضمان عدم تقوية الكورد في سوريا بشكل يهدد أمنها القومي. ورغم أن تركيا تدرك جيداً أن الكورد يشكلون جزءاً أساسياً من المعادلة السورية، إلا أنها تحاول الضغط على الحكومة السورية الجديدة للقبول بحلول وسطية تمنع الانزلاق إلى تقسيمات قد تضر بمصالحها في المستقبل.

أما الدول العربية، فلا تزال تتأرجح بين تأكيد التزامها بوحدة الأراضي السورية وبين سعيها لتحقيق مصالحها الخاصة في إطار الحلول السياسية. ورغم محاولات بعض الدول العربية العودة إلى دمشق وتعزيز التواصل الدبلوماسي، إلا أن هذه الزيارات، في جوهرها، تهدف إلى إبقاء الوضع في سوريا غير مستقر نوعاً ما خلال السنوات القادمة، على أمل أن تتمكن هذه الدول من فرض حلول تسهم في تجنب التقسيم وتعزز الاستقرار الإقليمي في الوقت نفسه.

إجمالاً، من الواضح أن الزيارات المتكررة والتواصل مع دمشق تعكس رغبة بعض الأطراف الإقليمية في منع تفاقم الوضع السوري أكثر مما هو عليه، لكن الحلول الحقيقية والشاملة ستظل رهينة الإرادة الدولية والإقليمية، التي يبدو أنها تأخذ وقتاً طويلاً في تحديد مستقبل سوريا بالكامل.

- الاستنتاج: نحو المستقبل المشترك

في النهاية، يبدو أن القضية الكوردية في سوريا والمنطقة لن تظل كما هي. التحولات الإقليمية والدولية، إلى جانب الوعي المتزايد لدى القوى الغربية بدور الكورد في المستقبل السوري، تفتح آفاقاً جديدة لهذه القضية. ورغم التحديات، فإن الكورد السوريين سيواصلون النضال من أجل تحقيق مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً للجميع في سوريا. ومع كل ما يواجهونه من ضغوطات، يبقى الأمل في أن يظلوا جزءاً من سوريا الموحدة، ولكن مع ضمان حقوقهم وتطلعاتهم في إطار حوكمة ديمقراطية لامركزية.

أضف تعليق


كود امني
تحديث

X

تحذير

لا يمكن النسخ!