الجذور القديمة للكورد: دراسة تاريخية
بقلم: د. عدنان بوزان
المقدمة:
تتميز منطقة كوردستان بكونها منطقة جغرافية وثقافية تقع في الشرق الأوسط، وتشمل أجزاءً من عدة دول معاصرة مثل العراق وإيران وتركيا وسوريا. يعيش في هذه المنطقة الكورد، وهم مجموعة عرقية تمتلك تاريخاً طويلاً وثقافة غنية ولغة خاصة بهم، وهي اللغة الكوردية التي تنتمي إلى اللغات الهند وأوروبية.
يعود تاريخ الكورد إلى العصور القديمة إلى الحضارة السومرية، حيث تشير السجلات التاريخية إلى وجودهم في المنطقة منذ الألف الثانية قبل الميلاد. خلال العصور الوسطى، كان الكورد يعيشون في ممالك وإمارات مستقلة، وكانوا معروفين بمهاراتهم العسكرية وقدرتهم على الحكم الذاتي.
في العصر الحديث، تعرض الكورد للعديد من التحديات، بما في ذلك الصراعات السياسية والاجتماعية مع الدول التي يعيشون ضمن حدودها. على الرغم من الصعوبات، لا يزال الكورد يحافظون على هويتهم الثقافية ويسعون لتحقيق مزيد من الاعتراف السياسي والحكم الذاتي.
كوردستان كمفهوم جغرافي يشير إلى الأراضي التي تعتبر تاريخياً موطناً للكورد. تتميز هذه المنطقة بتضاريسها الجبلية وطبيعتها الخلابة، ولكنها أيضاً مسرح للعديد من النزاعات السياسية والعسكرية على مر السنين. الحركات الكوردية المعاصرة، تلعب دوراً كبيراً في السعي نحو تحقيق أهداف سياسية وثقافية للشعب الكوردي.
التاريخ الكوردي يعكس تحديات كثيرة ولكنه يبرز أيضاً الإصرار على الحفاظ على الهوية الثقافية واللغوية في مواجهة العديد من الصعاب.
تاريخ الكورد قبل الميلاد يكشف عن ملامح معقدة وغنية بالتحولات الثقافية والسياسية. هذه المنطقة التي نعرفها اليوم باسم كوردستان كانت موطناً للعديد من القبائل الآرية التي هاجرت من وسط آسيا إلى جبال زاغروس في غرب الهضبة الإيرانية، وهذه الهجرات بدأت منذ الألف الثالث قبل الميلاد. هذه القبائل، على مر العصور، قامت بتأسيس مجتمعات وفروع عرقية متنوعة كان لها تأثير كبير على التطور السياسي والثقافي في المنطقة.
السجلات القديمة من الحضارات السومريين، الأكاديين، البابليين، الآشوريين، الحيثيين والمصريين تشير إلى تلك القبائل بأسماء مختلفة، تبعاً للفترات التاريخية والسياسية. هذه الوثائق تعطينا نظرة عن كيفية تفاعل هذه القبائل مع جيرانها وكيف تمازجت عبر الزمن لتشكل هوية موحدة.
في القرن الثامن قبل الميلاد، برزت الإمبراطورية الميدية من بقايا السومر كقوة سياسية مهيمنة في المنطقة، وأنشأت سيادة على الأراضي التي كانت تسكنها هذه الفروع القبلية. الإمبراطورية الميدية، والتي كانت مركزها في ما هو الآن شمال غرب إيران، لعبت دوراً محورياً في توحيد القبائل والفروع الكوردية تحت راية سياسية وثقافية موحدة، ويعتبر الشعب الكوردي في العصر الحديث نتيجة لهذا التكوين الإثنولوجي والحضاري.
إن فهم هذا التاريخ المعقد للكورد قبل الميلاد يمكننا من إدراك الجذور العميقة للهوية الكوردية وتطورها عبر الأزمان، حيث تشكلت من تفاعلات متعددة الأبعاد بين الجغرافيا، السياسة، والثقافة.
وأبرز فروع أسلاف الكورد هي كما يلي :
فرع لوللو Lulu
في أعماق جبال زاغروس، حيث تتلاقى الأرض بالسماء وتختلط الأساطير بالتاريخ، نشأت قبائل لوللو، وهي فروع من الأسلاف القدامى للكورد. تروي اللوحات المسمارية القديمة، والتي يرجع تأريخ بعضها إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، قصة شعب لوللو الذي كان يسكن منطقة هالمان، المعروفة اليوم بأسماء مختلفة مثل حلوان وهورامان وزهاو. كانت هذه المنطقة ممراً حيوياً على طريق الحرير، شاهداً على تدفق الأفكار والبضائع بين بلاد ما بين النهرين وقلب إيران.
مع مرور الزمن، اكتسب لوللو، أو لوللوبي ولوللومي كما كانوا يُعرفون أيضاً، مكانة متزايدة في المشهد الجيوسياسي القديم. خلال عصر سلالة أور الثالثة، ارتفع شأن هذه القبائل ليصبح اسمهم مرادفاً لكافة القبائل الجبلية في المنطقة. كانوا محاربين وفنانين، ينحتون قصصهم في الحجر والأسطورة.
أحد أبرز ملوك لوللو كان لاسيراب، الذي عاصر الملك الآكادي سرجون الأول، ويُذكر تاريخه بكونه تزامن مع عصر الازدهار السياسي والفني. ومثله، تار-لوني، الذي ترك نصباً رائعاً في منطقة سرى بولي بمنطقة هورين شيخان، يعكس البراعة الفنية والقوة السياسية للوللوبيين، مضاهياً في جماله وروعته منحوتات نارام سين.
لم تكن الحياة في تلك العصور خالية من النزاعات، فقد واجهت قبائل لوللو الآشوريين في حروب عديدة، حيث سجل التاريخ أربع مواجهات دامية بين العامين 884 و880 ق.م. كانت زيمري، العاصمة الفخورة للوللو، مركزاً لهذه المقاومة، تصدت للغزاة بشراسة وكرامة.
إن قصة لوللو تعكس الروح الأبدية للشعوب التي حكمت جبال زاغروس، وهي تقدم لنا فهماً عميقاً للهوية الكوردية التي تشكلت وتماسكت عبر التحديات والعصور.
فرع غوتي Gutti
في ظلال جبال زاغروس، حيث تعانق الأرض السماء وتصدح الرياح بأصداء التاريخ، برزت قبائل غوتي كأحد أعظم أسلاف الأمة الكوردية. ينتمي غوتي إلى أصول زاغروس العريقة، حيث استوطنوا المرتفعات الشرقية لنهر الزاب الصغير وامتدت أراضيهم حتى زهاو الجميلة. يُعتبر غوتي من أولئك الذين رسموا معالم التاريخ بقوة، وأسسوا مملكتهم العظيمة التي تداخلت حدودها بين مرتفعات ووديان كوردستان الحالية.
من خلال آثار مملكة غوتيوم التي تعود إلى القرن الـ24 قبل الميلاد، نجد أن الغوتيين لم يكونوا مجرد محاربين، بل كانوا أيضاً حكاماً ومدبرين استثنائيين. كان لهم دور بالغ في سقوط مملكة آكاد، وهي واحدة من الإمبراطوريات العظيمة في تلك الفترة، وذلك في أعقاب حكم شركلي شري. بينما يُذكر أن ملوك غوتي مثل آناتوم وأمبيا لم يكتفوا بحكم أراضيهم، بل تمددوا ليحاربوا العيلاميين ويدخلوا في صراعات مع القوى الرئيسية في المنطقة.
تحت حكم غوتي، شهدت المنطقة تحولات جوهرية حيث فرضوا سلطتهم على بابل واستعادوا الحكم الذاتي للأكاديين والسومريين، وهو ما يُعتبر من أولى الصيغ للحكم الذاتي في تاريخ غرب آسيا. كانت غوتيوم رمزاً للعزم والشدة، وهو ما عكسه شلما نصّر الأول بوصفهم بأنهم كالنجوم الزاهرة في السماء، متسلحين بقوة عظيمة وعزم لا يلين.
على الرغم من أن الآشوريين تمكنوا من التغلب على غوتي في نهاية المطاف، إلا أن الصراعات بينهما كانت ملحمية وشهدت إراقة دماء غزيرة. شهدت هذه الحروب تأكيد شجاعة وصلابة الغوتيين، الذين خاضوا المعارك بكل شراسة وبقوة عظيمة تمتد من حدود أوراتري إلى كيموخي.
تاريخ الغوتيين يعد بمثابة فصل لامع في الرواية الكوردية الطويلة، حيث يُظهر كيف تمكن شعب من الجبال من تشكيل حضارة راسخة تستمد قوتها من عزمها وتصميمها على البقاء والازدهار وسط التحديات الجغرافية والسياسية. الغوتيين، بمزيجهم الفريد من القدرة العسكرية والاستراتيجية السياسية، لم يساهموا فقط في تشكيل النسيج الثقافي والسياسي لمنطقة كوردستان، بل أثروا أيضاً في ديناميكيات القوة في بلاد ما بين النهرين.
الغوتيون كانوا بُناة إمبراطورية بقدر ما كانوا محاربين؛ فقد استطاعوا استيعاب وتوليف التقاليد المختلفة من الشعوب التي أخضعوها، مما أتاح لهم إدارة منطقة واسعة ومتنوعة بفعالية. وعلى مر الزمان، غُرس اسمهم في الأرض والتاريخ، مثل جبل جودي الذي يُعتقد أن اسمه مُشتق من غوتي، كدلالة على بصمتهم العميقة في المنطقة.
هذه الإرث الغني للغوتيين يعكس ليس فقط قوة وصلابة الكورد كشعب، بل يُظهر أيضاً مرونتهم وقدرتهم على التكيف مع الظروف المتغيرة والاستفادة منها لصالح تطورهم الاجتماعي والسياسي. تمكنوا من ترسيخ حكمهم وتقديم نماذج للإدارة الذاتية التي استمرت تأثيراتها قروناً طويلة بعد زوال حكمهم الفعلي، مما يُعد شهادة على حكمتهم وفطنتهم الإدارية.
لذا، فإن دراسة تاريخ الغوتيين لا تُسلط الضوء فقط على جزء من الماضي الكوردي، بل تُعتبر مفتاحاً لفهم كيفية تشكل الهويات الثقافية والسياسية في منطقة بلاد ما بين النهرين القديمة وأثرها الممتد عبر العصور.
فرع كاشّو Kashshu
في ظلال الحضارات العظيمة، برزت قبائل كاشّو كعنصر فاعل وقوي في منطقة جبال زاغروس، وكان لهم دور بالغ الأهمية في تاريخ المنطقة. هذا الفرع، المعروف أيضاً بأسماء مثل كاشيش وكاسيت، استمد اسمه من إلههم الجبلي كاشّو. الكاشيون، بعبادتهم لآلهة مثل دنیاش وسوریاش وبوریاش، قد تميزوا بطقوس دينية فريدة حيث اتخذوا الصليب، الذي كان رمزاً لإله الشمس ميترا، كرمزٍ دينيٍّ رئيسي.
الكاشيون، وعبر استيطانهم في جبال زاغروس، أدخلوا إلى بلاد ما بين النهرين عناصر حضارية جديدة، وأحدثوا لها اسماً جغرافياً جديداً هو كاردونياش؛ أي بلاد الإله دونیاش. هم أول من أدخل الخيل إلى المنطقة، مما يدل على تأثيرهم الكبير على تطور الحضارة في المنطقة. يظهر التشابه الواضح بين اسم كاردونياش والكورد، مما يعزز الفرضية بأن هذه الأسماء قد تشترك في جذور تاريخية مشتركة.
الكاشيون لم يقتصروا على البقاء ضمن حدود جبال زاغروس، بل توسعوا ليغيروا على بلاد بابل ويحتلوها حوالي سنة 1760 ق.م، واستمروا في السيطرة على العديد من المناطق بما في ذلك سومر لما يقرب من ستة قرون حتى سنة 1171 ق.م. خلال فترة حكمهم، عمل الكاشيون على تحقيق الاستقرار والازدهار، وأظهروا مهارات حكم وإدارة استثنائية.
إن قصة الكاشيون تعكس تلك الحركية الثقافية والسياسية التي كانت تجتاح منطقة بلاد ما بين النهرين خلال الألفيات السابقة، وتبرز كيف كانت القبائل الكبيرة تستغل الفرص لتحكم وتفرض سيادتها على القبائل الأخرى. وفي النهاية، حتى بعد أن زال اسم كاشّو مع مرور الزمن وتحول إلى العشائر اللورية في لورستان، تظل الإرث الكاشّوي محفوراً في الذاكرة الجمعية والتاريخ الطويل للشعوب الكوردية والهندوأوروبية في المنطقة.
فرع حوري Huri – ميتاني Mittanni
الحوريون وميتاني، هما فرعان بارزان في الشرق الأوسط القديم، يشتركان في تاريخ معقد ومتداخل يعكس التحولات الديناميكية والتفاعلات الثقافية في المنطقة.
الحوريون، أو كما يُعرفون بالصيغة الأدق خورّي، تميزوا بكونهم من شعوب الشرق القديم الذين لهم دور مهم في تاريخ المنطقة. الاسم خورّي مرتبط بكلمة "خُرَدي" التي تعني الجندي اليقظ، وهو ما يعكس الصفات العسكرية التي كان يتميز بها هذا الشعب. ورد اسم الحوريين في العهد القديم، وتشير المصادر إلى ترابطهم مع السوباريين، الذين يُعتقد أنهم من أسلافهم.
مملكة ميتاني، التي نشأت في الألفية الثانية قبل الميلاد، كانت قوة هامة في شمال ما بين النهرين وشمال غرب سوريا. تعتبر ميتاني من الدول الكبرى في تلك الفترة، حيث اشتهرت بحكامها القويين وقدرتها على تحقيق توازنات سياسية معقدة مع الإمبراطوريات المجاورة مثل مصر وآشور والحيثيين. تميزت ميتاني بامتلاكها نخبة من مربي الخيل وتطوير عربات القتال التي كانت تشكل جزءاً مهماً من قواتها العسكرية.
التداخل بين الحوريين وميتاني يظهر في العديد من الجوانب الثقافية واللغوية، حيث يعتقد الباحثون أن هناك تأثيرات مشتركة وتبادلات بين هذين الشعبين. يرى غلب وغيره من الباحثين أن الحوريين، بصفتهم أحفاد السوباريين، لعبوا دوراً كبيراً في تكوين الهوية الثقافية والسياسية لميتاني، وهذا يعكس كيفية تشابك القبائل والثقافات في تلك الفترة.
في النهاية، يعكس التاريخ المشترك بين الحوريين وميتاني غنى وتعقيد التفاعلات بين شعوب وثقافات الشرق القديم، مما أدى إلى تشكيل تراث ثقافي وتاريخي يستمر أثره حتى اليوم. ويبرز هذا التداخل كيف كان الشعوب يكتسبون هويتهم واسمهم من الفرع المسيطر في كل مرحلة تاريخية، مما يظهر ديناميكية التاريخ البشري وتطور الحضارات عبر العصور.
التفاعل بين الحوريين وميتاني ليس فقط مثالاً على التبادل الثقافي والسياسي، بل يُظهر أيضاً كيف يمكن للشعوب أن تتأثر ببعضها بعضاً على مر الزمان. تلك التفاعلات أسهمت في نشر العديد من الابتكارات التقنية والعسكرية، كما في استخدام العربات الحربية التي اشتهرت بها ميتاني، والتي كان لها تأثير بالغ في الحروب في تلك الفترة.
علاوة على ذلك، تُظهر السجلات الأثرية والنصوص القديمة كيف تمكنت هذه الشعوب من تأسيس ديناميكيات معقدة من التحالفات والعلاقات الدبلوماسية. مثلاً، علاقات ميتاني مع مصر، التي تميزت بالزواج الملكي بين العائلتين المالكتين كوسيلة لتعزيز السلام وتبادل الثقافات والتقنيات.
هذه الحقبة من التاريخ تُعلمنا أهمية التفاهم والتفاوض في إدارة الصراعات وتعزيز الاستقرار الإقليمي. كان للحوريين وميتاني دور رئيسي في نسج شبكة من العلاقات السياسية التي ساهمت في شكل النظام الجيوسياسي للشرق الأوسط القديم.
إن الإرث الثقافي والتاريخي للحوريين وميتاني يعكس كيف يمكن للتفاعل بين الحضارات أن يخلق تأثيرات دائمة على الثقافة والسياسة والاقتصاد. يُظهر هذا التاريخ كيف أن الثقافات، حتى تلك التي قد تبدو مستقلة، هي في الواقع مترابطة ومتأثرة بشكل معقد بالشعوب المجاورة، مما يؤدي إلى تطور مشترك يعكس الطبيعة المتشابكة للتاريخ البشري.
يقدم غزنوت فيلهلم، الباحث الألماني، تحليلاً مهماً حول الحوريين والميتانيين، مشيراً إلى أن الحوريين كانوا السابقين في الظهور والتأثير في المنطقة، وأن الميتانيين، الذين ظهروا لاحقاً، يعتبرون فرعاً من الحوريين. ويبدو أن العلاقة بين الحوريين والميتانيين كانت تجمع بين الأصول الثقافية والانعكاسات السياسية؛ حيث يرمز اسم "حوري" إلى جانب ثقافي قوي، في حين يحمل اسم "ميتاني" دلالة سياسية أكبر تتعلق بالتوسع والنفوذ.
الحوريون، الذين ظهروا خلال الألف الثالث ق.م، احتلوا منطقة جغرافية استراتيجية تقع بين منعطف نهر الفرات والمجرى العلوي لنهر دجلة. كانت هذه المنطقة، التي يُشار إليها غالباً بمثلث ينابيع الخابور، مركزاً لنشاطهم وتأثيرهم الثقافي والسياسي. الحدود الشمالية لهذه المنطقة، والتي يرجح أنها شملت مناطق مثل طور عابدين والسهل المحيط بمدينة ديار بكر (المعروفة تاريخياً باسم آمد)، لم تكن واضحة المعالم، مما يدل على التوسع والتحرك المستمر لهذه الشعوب في البحث عن الأراضي والنفوذ.
وتبدو الحوريون كجزء لا يتجزأ من النسيج الثقافي والتاريخي للمنطقة، حيث تداخلوا مع السكان المحليين والمجموعات العرقية الأخرى. هذا التداخل أسهم في خلق بيئة غنية بالتبادلات الثقافية والتقنية، مما أثر بشكل كبير على تطور المنطقة.
الميتانيون، من ناحية أخرى، استفادوا من هذه البنية الثقافية والاجتماعية المتينة التي ورثوها عن الحوريين، وتمكنوا من تأسيس إمبراطورية قوية تعد من القوى الكبرى في الشرق القديم خلال فترة حكمهم. كانوا مهندسين للعديد من الابتكارات العسكرية والدبلوماسية التي ساهمت في رفع شأنهم وتعزيز نفوذهم السياسي والاقتصادي في المنطقة.
تُظهر هذه الرؤية التاريخية للحوريين والميتانيين كيف يمكن تأثير الشعوب والثقافات عبر العصور أن يُسهم في تشكيل وإعادة تشكيل الهويات الجماعية والدول. الحوريون والميتانيون، كمجموعتين ذات صلة، تظهران كمثال بارز على كيفية تأثير التراث الثقافي والقيم العرقية في تحديد السياسات والاستراتيجيات التي يتبناها شعب ما.
في عصر الحوريين والميتانيين، لم تكن الديناميكيات المحلية محصورة فقط بالنزاعات والحروب، بل شملت أيضاً تحالفات ومعاهدات. كانت مملكة ميتاني تمتاز بعلاقاتها الدبلوماسية، خاصة مع مصر، حيث تعززت هذه العلاقات من خلال الزيجات الملكية والتحالفات العسكرية. هذه العلاقات ساعدت في استقرار المنطقة وتحقيق تقدم ملحوظ على مستوى البنية التحتية والاقتصاد.
علاوة على ذلك، فإن التركيز على العلوم العسكرية وتربية الخيل، الذي اشتهر به الميتانيون، يدل على مدى تقديرهم للفنون العسكرية وتطويرها كجزء من هويتهم الثقافية والسياسية. وقد ساعدت هذه الخبرات في تعزيز قوة الميتانيين وتوسيع نطاق سيطرتهم في المنطقة.
إن دراسة التاريخ الحوري والميتاني توفر لنا فهماً أعمق لكيفية تفاعل الثقافات والشعوب في الشرق القديم. يُظهر هذا التفاعل أهمية التبادل الثقافي والتكيف والابتكار في مواجهة التحديات السياسية والاجتماعية. بالإضافة إلى ذلك، يُسلط الضوء على أهمية الهوية الثقافية وكيف يمكن أن تشكل السياسات والتوجهات الاستراتيجية للمجتمعات عبر الزمن، مما يعطينا بصيرة ثاقبة حول الأسس التي بنيت عليها الحضارات وكيف تتفاعل وتتطور.
تمثل الفترة التي برز فيها نفوذ الحوريين ومملكة ميتاني واحدة من العصور الذهبية في تاريخ الشرق الأوسط القديم. كانت مملكة ميتاني، بعاصمتها وشّوكاني، قوة إقليمية بارزة استطاعت أن تمد نفوذها عبر مناطق واسعة تشمل كوردستان وشمال سوريا وحتى المناطق الوسطى من سوريا، مما جعلها أحد أهم الفاعلين في السياسة الإقليمية للشرق الأوسط في ذلك الوقت.
خلال منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، تمكن الحوريون من استغلال الخبرات والتأثيرات السومرية والآكادية لتأسيس مملكة قوية ومستقرة، كان لها تأثير كبير في تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة. النجاح الذي حققه الميتانيون يمكن أن يُعزى إلى قدرتهم على التوسع والاستقرار في مناطق استراتيجية توفر ممرات تجارية وموارد طبيعية.
العلاقات الدولية في ذلك الوقت كانت معقدة، حيث تنافست مملكة ميتاني مع الدولة الحِثّية والمملكة المصرية على السيطرة والنفوذ في المنطقة. كانت العلاقات بين الميتانيين والحثيين متوترة على الدوام، وشهدت فترات من الصراع المباشر. من ناحية أخرى، كانت العلاقة بين الميتانيين والمصريين تتسم بالتنافس والصراع في البداية، لكنها تطورت إلى صلح وتحالف استراتيجي. هذا التحالف كان يهدف إلى مواجهة الخطر الحثي المشترك، مما أدى إلى تقاسم النفوذ في سوريا وتعزيز الاستقرار الإقليمي.
هذه الفترة من التاريخ تظهر كيف يمكن للدول أن تنتقل من الصراع إلى التعاون بناءً على مصالح مشتركة، مما يساعد في تحقيق استقرار أكبر في المنطقة. كما تعكس أهمية الدبلوماسية والتحالفات في إدارة التوترات والصراعات الدولية. استطاع الحوريون ومملكة ميتاني أن يتركوا بصمة لا تُمحى في تاريخ الشرق الأوسط، من خلال قدرتهم على التكيف مع التحديات الدولية واستغلال الفرص الدبلوماسية لتعزيز مكانتهم وتأمين مصالحهم الإقليمية.
علاقات المصاهرة بين مملكة ميتاني ومصر خلال العصر البرونزي المتأخر تعكس مدى الدبلوماسية المعقدة والاستراتيجية التي كانت تُمارس بين الإمبراطوريات العظيمة في ذلك الوقت. الزيجات الملكية كانت وسيلة فعالة لتأمين السلام وتعزيز التحالفات بين الدول، وقد لعبت دوراً حاسماً في السياسة الخارجية لكل من ميتاني ومصر.
أرتاتاما الأول، شوتّارنا، وتوشراتّا كانوا ملوك ميتاني الذين عملوا على تعزيز العلاقات مع مصر من خلال الزواج الملكي. غيلو-خِبا، الأميرة الميتانية، تزوجت من الفرعون تُحوتمُس الرابع، وهذا الزواج كان بمثابة جسر دبلوماسي هام بين الثقافتين. وُلِد من هذا الزواج آمونحوتب الثالث، الذي تابع سياسة والده في تعزيز العلاقات الخارجية، وقد تزوج هو الآخر من تتو-خبا، وهي أميرة من ميتاني أيضاً.
هذه الزيجات الملكية لم تكن فقط تحالفات سياسية، بل كانت أيضاً وسائل للتبادل الثقافي والديني بين الدولتين. هذه العلاقات أتاحت لكل من مصر وميتاني فهماً أعمق لثقافة ودين الآخر، مما ساهم في تعزيز التسامح والتفاهم المتبادل.
بيد أن العلاقات بين ميتاني ومصر تعرضت للتوتر والضعف في عهد الفرعون آمونحوتب الرابع، المعروف أيضاً باسم أخناتون. أخناتون أجرى إصلاحات دينية جذرية، منها إلغاء عبادة الإله آمون وإحلال ديانة الإله آتون، الإله الشمسي، مكانها. هذه الإصلاحات الدينية أدت إلى مشاكل داخلية خطيرة وألهت الفرعون عن السياسة الخارجية، مما أثر سلباً على العلاقات مع ميتاني.
تُظهر هذه الديناميكيات كيف يمكن للزيجات الملكية والتحالفات الدولية أن تؤثر على السياسات الداخلية والخارجية للدول، وكيف يمكن للقرارات الفردية للحكام أن تؤدي إلى تحولات كبيرة في التوازنات الإقليمية.
فرع سُوباري Subari
فرع سُوباري يُعد واحداً من الأمثلة المميزة على تعقيدات التاريخ القديم وتطور الهويات العرقية في الشرق الأوسط. كان اسم "سُوباري" في البداية يشير إلى منطقة جغرافية واسعة، تمتد من عيلام شرقاً إلى جبال أمانوس غرباً، خلال العهد الآكادي. هذا الاسم، مع مرور الوقت، تحول إلى يدل على قبائل كبيرة مستقرة في كوردستان، التي كانت قد تفرعت من الأقوام الأصلية المعروفة بأقوام زاغروس.
السوباريون، كما يشير الباحث مهرداد إيزادي، لهم صلة نسب بقبيلة زيباري المقيمة حالياً في كوردستان الجنوبية، مما يعكس الاستمرارية الثقافية والعرقية للسوباريين في المنطقة. إضافة إلى ذلك، كانت هناك علاقة لغوية وثقافية بين السوباريين والغوتيين، حيث استخدم السومريون اسم "سُوباري" للإشارة إلى الغوتيين أيضاً.
الروايات التاريخية تذكر أن السوباريين كانوا متورطين في عدة حروب ضد الآشوريين، وخصوصاً في عهد الملك الآشوري تيجلات بلاسّر الأول. هذه الصراعات تعكس التوترات المستمرة بين السوباريين والإمبراطورية الآشورية الناشئة، التي كانت في توسع مستمر. نتيجة لهذه الحروب وتغييرات السيطرة السياسية، بدأ اسم السوباريين بالتلاشي، وأُستُبدِل بشعب آخر يُعرف بـ "نايري" في السجلات التاريخية خلال عهد الحكومات الآشورية اللاحقة.
تلك السجلات تعطينا نظرة عن الديناميكيات السياسية والعرقية في المنطقة، وكيف أن الهويات والأسماء العرقية يمكن أن تتغير مع الزمن، تبعاً للتحولات السياسية والعسكرية. يُعد تاريخ السوباريين مثالاً بارزاً على كيفية تفاعل القبائل الكوردية مع القوى الإقليمية الكبرى، مما يعكس تعقيدات البقاء والهوية في سياق الشرق الأوسط القديم.
فرع خلدي ( نايري Naiyri )
شعب خلدي، المعروف أيضاً بأورارتو، يُعدُّ من الفصول البارزة في تاريخ الشرق الأوسط القديم، مُظهراً كيف يمكن للشعوب أن تبني حضارات قوية ومؤثرة تتحدى الإمبراطوريات الكبرى كالآشوريين. استطاع الخلديون دمج مختلف الأقوام في كوردستان في كيان واحد، مما خلق ترابطاً قوياً وشجاعة في المواجهات العسكرية، وهذا ما ظهر بشكل واضح في مواجهاتهم ضد الآشوريين. المعارك التي خاضها خلديون ضد الآشوريين،
وخاصة تلك التي وقعت في هضبة ملاذكرد تحت قيادة 23 ملكاً من ملوك خلدي، تعكس القدرة العسكرية العالية التي كان يتمتع بها هذا الشعب. على الرغم من الهزيمة التي منيوا بها أمام الملك الآشوري تيجلات بلاسّر الأول، فإن هذه المعارك تعكس الدور البطولي الذي لعبه الخلديون في تاريخ المنطقة.
مملكة خلدي، التي تأسست في أوائل القرن التاسع قبل الميلاد، بلغت أقصى قوتها تحت حكم الملك ميثواس وابنه ساردوريس الثاني، وقد تمكنوا من توسيع نفوذ المملكة ليشمل بحيرة أورميا شرقاً، القفقاس شمالاً، والفرات غرباً. هذه التوسعات جعلت الخلديين قوة لا يُستهان بها في المنطقة.
النقاش حول هوية الخلديين وعلاقتهم بالأرمن مثير للاهتمام. بعض الباحثين يربطون بين الخلديين والأرمن، بينما يُظهر البحث الأثري واللغوي أن الخلديين قد يكون لهم جذور تعود إلى الحوريين، وأن لغتهم قد تكون مرتبطة بلغة الحوريين. ومع ذلك، فإن استقرار الأرمن في مناطق كانت تحت سيطرة الخلديين قد أدى إلى بعض الالتباس بين الهويتين الثقافيتين.
التحديات التي تواجه تفسير تاريخ الشعوب القديمة، مثل السومريين والخلديين، تُظهر كيف يمكن أن تُسيّس الهويات التاريخية في العصر الحديث. الدراسات الموضوعية والجادة ضرورية لفهم التاريخ بشكل أكثر دقة وتجنب المفاهيم المسبقة التي قد تتشوه التفسيرات العلمية للأحداث التاريخية. من المهم التعامل مع الأدلة الأثرية والتاريخية بموضوعية، بعيداً عن الأهواء القومية أو السياسية التي قد تحرف الحقائق. يجب الاعتماد على الأبحاث الأكاديمية المعمقة والمنهجية العلمية في تحليل النصوص التاريخية والروايات القديمة لضمان صحة التفسيرات.
إن استيعاب التاريخ بشكل صحيح يساعدنا في فهم كيفية تفاعل الثقافات المختلفة عبر العصور، وكيف تؤثر هذه التفاعلات على التطورات السياسية والاجتماعية. لكل حضارة مساهمتها الفريدة في تاريخ البشرية، وفهم هذه المساهمات بدقة يوفر لنا نظرة أعمق على العوامل التي شكلت عالمنا الحديث.
الخلديون، مثل غيرهم من شعوب المنطقة، كان لهم تأثير كبير على التوازن الجيوسياسي في الشرق الأوسط القديم، وعلاقاتهم المعقدة مع الآشوريين وغيرهم من القوى الإقليمية أثرت بشكل ملحوظ في تطورات تلك الفترة. بينما قد يكون من الجذاب الربط بين الخلديين والأرمن أو غيرهم من الشعوب المعاصرة، من الضروري الحذر من عدم إسقاط الهويات الحديثة على السياقات التاريخية دون أدلة قاطعة.
في النهاية، يقدم التاريخ القديم للخلديين وغيرهم من الشعوب فرصة لفهم كيف يمكن للهويات الثقافية والسياسية أن تتطور وتتكيف في مواجهة التحديات والفرص، مما يعكس الديناميكية الدائمة للتاريخ البشري.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. "The Kingdom of the Hittites" by Trevor Bryce - This book provides a comprehensive look at the Hittite state and its relationships with neighboring powers including the Mitanni kingdom. 2. "The Ancient Near East: History, Society and Economy" by Mario Liverani - This book offers a broad analysis of the Ancient Near East, including the political and economic dynamics of various kingdoms. 3. "Urartu: The Forgotten Kingdom" by Boris Piotrovsky - Focused on the kingdom of Urartu, this book provides detailed insights into its history and culture. 4. "The Archaeology of Elam: Formation and Transformation of an Ancient Iranian State" by D.T. Potts - Explores the history of Elam and its interactions with neighboring kingdoms like those of the Hurrians and Sumerians. 5. "The Hurrians" by Gernot Wilhelm - This source provides a detailed analysis of the Hurrian people, including their relationships with the kingdom of Mitanni and other kingdoms. 6. "Empires of the Plain: Assyria, Persia and the Birth of Civilization" by Lesley Adkins - Discusses the development of civilizations in the Middle East, including the role played by empires such as Assyria in shaping regional history. 7. "Assyria to Iberia: Art and Culture in the Iron Age" edited by Joan Aruz and Michael Seymour - This book provides insights into art and culture during the Iron Age, focusing on the Assyrians and cultural influences in the region.