التحاليل السياسية
سوريا... ماذا بقي من الدولة؟ تحليل شامل لتفكك الهياكل الحكومية والتحديات المستمرة
بقلم: د. عدنان بوزان
منذ عام 2011، شهدت سوريا اندلاع احتجاجات سلمية ضد نظام بشار الأسد، والتي سرعان ما تحولت إلى نزاع مستمر ومعقد، أصبح محور انتباه المجتمع الدولي. بعد أكثر من عقد من النزاعات والحروب، تساءل العالم: ماذا بقي من سوريا كدولة؟
أثّر هذا النزاع المستمر على جميع جوانب الحياة في سوريا، بدءاً من البنية التحتية وصولاً إلى الاقتصاد والمجتمع. الحروب الداخلية والتدخلات الخارجية أدت إلى دمار واسع وخسائر بشرية فادحة. بالإضافة إلى ذلك، أثّر النزاع على الهوية الوطنية للبلاد وأثبت التمزقات العميقة بين الطوائف والمجموعات الدينية والقومية.
من الناحية الاقتصادية، تأثرت سوريا بشكل كبير، حيث انهارت البنية الاقتصادية وتوقفت الصناعات والخدمات. العملة فقدت قيمتها، وارتفع معدل البطالة بشكل حاد، مما أدى إلى تفاقم الفقر وانعدام الأمن الاقتصادي. كما أثر النزاع على التعليم والرعاية الصحية، مما أثر على مستقبل الأجيال الصاعدة.
من الناحية الاجتماعية، أجبر الناس على النزوح داخل البلاد أو اللجوء إلى دول أخرى، مما أدى إلى أزمة إنسانية كبيرة. النازحون واللاجئون واجهوا تحديات جسيمة في الحصول على المأكل والمشرب والرعاية الطبية. الأطفال فقدوا فرص التعليم والكثير منهم تركوا الدراسة بسبب الحروب والصراعات.
من الناحية السياسية، شهدت سوريا تدخلاً خارجياً بشكل كبير، مما أثر على توازن القوى الإقليمي والدولي. الصراعات الجيوسياسية والتحالفات المعقدة جعلت من الصعب التوصل إلى حلاً دائماً وشاملاً للأزمة.
في ظل التطورات السياسية والعسكرية في سوريا، تظهر الهجمات الجوية الإسرائيلية كعامل مؤثر بشكل كبير على الوضع السياسي في المنطقة. منذ بداية عام 2013، بدأت إسرائيل في تنفيذ طلعات جوية باستخدام الطائرات المقاتلة والطائرات بدون طيار فوق الأجواء السورية، وقد استهدفت مختلف أماكن البلاد، بدءاً من العاصمة دمشق وريفها، وصولاً إلى مدن أخرى مثل دير الزور واللاذقية. هذه الهجمات تنوعت بين ضربات تستهدف قوافل متحركة ومستودعات ومطارات، إلى جانب تجمعات بشرية عسكرية.
الهجمات الإسرائيلية كانت تستهدف في الغالب النظام السوري وحلفاءه الرئيسيين، إيران وحزب الله. ومع ذلك، لم يكن للنظام السوري القدرة على وقف هذه الهجمات أو التصدي لتأثيراتها بشكل فعال. ومن الملاحظ أن روسيا، التي تعد داعماً رئيسياً للنظام السوري، تظل في كثير من الحالات تتفرج على هذه الهجمات، وأحياناً تواطأ معها، خاصة إذا ما ارتبطت بالظروف السياسية بينها وبين إيران.
على الرغم من التوترات الدائمة والصراعات المحلية والإقليمية، يبدو أن الدول الثلاث، سوريا وروسيا وإيران، تلعب دوراً معقداً ضمن إطار السيادة السورية المتبقية. وعلى الرغم من التصعيد المستمر والتبادل العسكري، يبدو أن هناك تفهماً من قبل الأطراف الثلاث لهذه الديناميات المعقدة والمتشابكة. إيران، على سبيل المثال، تظل تقدم الدعم للروس في الحرب الأوكرانية، بصرف النظر عن الهجمات الإسرائيلية في سوريا التي تجتاح الأجواء السورية دون أي اعتراض من الدفاعات الجوية الروسية.
تستمر الأحداث في سوريا في تأخذ منحى متسارعاً ومعقّداً، حيث يشهد الوضع السياسي والعسكري تحولات مستمرة. في الأيام الأخيرة، شهدنا ارتفاعاً ملحوظًاً في مستوى خروج الأجواء السورية عن سيطرة النظام، وهذه المرة لصالح الجانب التركي.
قامت تركيا بتشغيل مسيّراتها المتطوّرة في طلعات جوية فوق المناطق الشمالية التي يسيطر عليها الكورد، مستهدفة مراكز تجمّعهم العسكرية ومرافقهم الحيوية بشكل منتظم ومركّز. يبدو أن تركيا لا تنوي التوقّف حالياً، ومن الممكن أن تكون هذه الهجمات جزءاً من سياسة تركية تقليدية للرد على أي تحرك يقوم به الكورد، سواء كانت هجمات تجاوزية أو رداً على هجمات كوردية في المستقبل.
الكورد، الذين لا يمتلكون وسائط دفاعية مناسبة لردع المسيّرات المهاجمة، يجدون أنفسهم في وضع صعب، خاصة وأن الدعم الأمريكي لهم قد تراجع. يبدو أن الجانب الأمريكي لم يبدي اهتماماً خاصاً بالدفاع عن الكورد في هذه الظروف. حتى الآن، لم تتمكن القوات الأمريكية من إيقاف المسيّرات التركية بشكل فعال، وحتى عندما تم إسقاط إحدى المسيّرات التركية، تم ذلك عندما كانت الطائرة على بعد خمسمائة متر فقط، مما جعل القوات الأمريكية ترون هذه المسافة خطرة وتستجيب فقط للدفاع عن النفس.
في هذا السياق، بدلاً من التنديد بالهجمات بشكل صريح، اكتفت الخارجية الأمريكية بالدعوة إلى وقف التصعيد. يبدو أن الأجواء السورية أصبحت مسرحاً عاماً لأنواع متعددة من الهجمات، ويبدو أن "الدول الكبرى" تتابع الأحداث مباشرة دون أن تظهر أية نية للتدخل أو وقف هذه الهجمات. هذا الوضع يجسّد بشكل واضح التعقيدات السياسية والإستراتيجية في المنطقة، ويعزّز من ضرورة أهمية التوصل إلى حلاً دبلوماسياً لهذه الأزمة المستمرة في سوريا.
في سياق فقدان الأجواء السورية لصالح الطيران الأجنبي، أصبح هذا الظرف يجسّد تدهوراً كبيراً في سيادة الدولة السورية وتراجعاً ملحوظاً في السلطة والتحكم. بدأت الأمور بتجنب الطيران المدني التحليق فوق الأجواء السورية، حتى وإن كان ذلك يعني تكبد شركات الطيران نفقات التشغيل وتكاليف التأمين. وهذا يعكس تفادي الجميع التورط في الفوضى الأمنية والعسكرية التي تجتاح البلاد.
ومع ذلك، استمر الطيران الإسرائيلي في شن هجماته شبه اليومية داخل الأجواء السورية، مستهدفاً بشكل متكرر مواقع ومنشآت عسكرية. ووجدت تركيا في هذه الفرصة الفريدة فرصة مناسبة لتصفية حساباتها مع الجانب الكوردي، حيث شنت هجمات متكررة ضد القوات الكوردية في سوريا.
أما الحدث الذي زاد من حدة الوضع وأظهر الهشاشة الكبيرة للدولة السورية كان الهجوم على طلاب الكلية العسكرية. هذه الهجمات، التي تم تنفيذها بواسطة طائرات درون بدون أي عراقيل أرضية، أسفرت عن مقتل العديد من الأفراد، بما في ذلك ضباط شبان يخرجون ليخدموا في صفوف الجيش السوري. هذا الحادث أظهر بوضوح أن الهياكل الحكومية والعسكرية في سوريا قد أصبحت هشة وعرضة للخطر.
في الوقت الحالي، يظل فقدان السيطرة على الأجواء يجسد نقطة ضعف كبيرة في الدولة السورية، حيث تجسد السيادة الوطنية والقدرة على حماية الأراضي والمواطنين. مع تفاقم هذه الأزمة، يبقى التحدي أمام السوريين والمجتمع الدولي لإيجاد حلاً دبلوماسياً وسلمياً للأزمة السورية، لإعادة بناء الدولة واستعادة الاستقرار والسلام إلى هذه الأرض المنكوبة.
في هذا السياق، يعكس فقدان الأجواء السورية لصالح الطيران الأجنبي تدهوراً مستمراً في الهياكل الحكومية والعسكرية للدولة، مما يترك البلاد عرضة للتدخلات الخارجية والصراعات الداخلية. السيطرة الضعيفة على الأجواء تعني فقدان القدرة على حماية المواطنين والمرافق الحيوية من الهجمات الجوية، مما يؤدي إلى المزيد من الفوضى والدمار.
تزيد هذه التطورات من حدة التحديات التي يواجهها الشعب السوري. فهم يعانون ليس فقط من تدمير البنية التحتية وفقدان الأمان والاستقرار، ولكن أيضاً من فقدان الثقة في الحكومة وقدرتها على حمايتهم. وهذا يؤثر بشكل كبير على الحياة اليومية والمستقبل المستدام للبلاد.
في ضوء هذه الأحداث، يجب على المجتمع الدولي التعاون بشكل أكبر لوضع حد للتصعيد العسكري والتدخلات الخارجية في سوريا. يجب أن تكون هناك جهود دولية مشتركة للعمل على إحلال السلام وإعادة بناء البلاد وتوفير الدعم الإنساني والاقتصادي اللازم لإعادة إعمار البنية التحتية وتقديم الدعم النفسي للمتضررين.
من الضروري أن تكون هناك إرادة دولية قوية لحل الأزمة السورية، بما في ذلك دعم الحلول السياسية التي تضمن استقرار المنطقة وحماية حقوق الإنسان. يجب على القادة العالميين والمنظمات الدولية العمل بشكل مستمر لتحقيق السلام في سوريا ومساعدة الشعب السوري في إعادة بناء حياتهم ومستقبلهم.
لكن يبقى الوضع في سوريا معقداً ومتغيراً باستمرار، مع استمرار التداخلات الخارجية والصراعات الداخلية. وعلى الرغم من الهجمات الجوية المستمرة وعدم الاستقرار السياسي، يبقى الأمل في إيجاد حل سياسي دائم وعادل للأزمة السورية تحت إشراف المجتمع الدولي، لتحقيق الاستقرار والسلام في هذه الدولة المنكوبة في مواجهة هذه التحديات المستمرة، يتعين على المجتمع الدولي العمل بجدية للتخفيف من معاناة الشعب السوري والمساهمة في بناء مستقبل مستقر ومزدهر للبلاد. هذا يتطلب تعزيز التعاون الدولي، ودعم جهود الإغاثة وإعادة الإعمار، وضمان حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.
ومن الضروري أيضاً العمل على تحقيق حوار سياسي شامل ومستدام بين جميع الأطراف المعنية في النزاع السوري. يجب على الدول المعنية بالأمر أن تتحلى بالحكمة والرؤية الإستراتيجية للتوصل إلى حلاً دائماً يحقق السلام والاستقرار في المنطقة. هذا يتطلب التفاوض والتسوية السياسية التي تأخذ في اعتبارها مصالح وآمال الشعب السوري.
علاوة على ذلك، يجب على المجتمع الدولي النظر في سبل دعم الشعب السوري من خلال تقديم المساعدات الإنسانية والتنمية الاقتصادية، وتشجيع الاستثمار في البنية التحتية وقطاعات الاقتصاد المحلي. هذه الجهود يمكن أن تسهم في إعادة إحياء الاقتصاد السوري وتوفير فرص العمل والحياة الكريمة للمواطنين.
على الرغم من هذه التحديات الكبيرة، فإن الشعب السوري يظل قوياً ومستمراً في الصمود. العديد من المنظمات الدولية والجمعيات الإنسانية تعمل بجد لتقديم المساعدة والدعم للنازحين واللاجئين، ولتخفيف المعاناة الإنسانية.
من المهم أن يواصل المجتمع الدولي العمل المشترك لدعم جهود الإغاثة وإعادة الإعمار في سوريا. يجب أن تكون هناك جهود دولية للمساعدة في التسوية السياسية للنزاع، وتعزيز الحوار بين جميع الأطراف المعنية.
بالإضافة إلى ذلك، يجب تشجيع الاستثمارات في مستقبل سوريا، بحيث تدعم عملية إعادة الإعمار وتعزز من فرص العمل والاستقرار الاقتصادي.