التحاليل السياسية
تحالف روسيا والصين: تحديات جديدة في السياسة العالمية واستراتيجية الحرب الفاترة
بقلم: د. عدنان بوزان
تتصاعد حدة التوترات الجيوبوليتيكية في العالم مع احتمال تشكيل تحالف بين روسيا والصين، وهو ما يثير قلقاً كبيراً في أروقة السياسة الأمريكية، معيداً إلى الأذهان صورة التحالفات الشيوعية خلال الحرب الباردة. لكن الواقع الجديد يبدو مختلفاً عن تلك الفترة؛ فروسيا اليوم، على الرغم من تخليها عن الشيوعية كإيديولوجية حاكمة، لا تزال تعتمد نظاماً سياسياً يركز على القومية والسلطة المركزية القوية، بينما تبنت الصين نهجاً يجمع بين الاستبداد السياسي والتبني الجزئي للأساليب الرأسمالية في اقتصادها.
التحول في السياسات الداخلية والخارجية لكلا البلدين يقود إلى تقارب استراتيجي قد يكون له تأثيرات معتبرة على موازين القوى العالمية. فالصين، بكونها قوة اقتصادية صاعدة ومستهلك كبير للطاقة، تجد في روسيا، المنتج الكبير للطاقة والمعزول نسبياً بسبب العقوبات الغربية، شريكاً مثالياً. هذا التكامل الاقتصادي يعزز من الروابط السياسية والعسكرية بين الدولتين، ويضع الولايات المتحدة أمام تحديات جديدة في كيفية التعامل مع هذه الكتلة الجديدة.
خلال فترة رئاسة ترامب، شهدت العلاقات مع الصين أدنى مستوياتها، وبالرغم من بعض الانفراجات مع روسيا، فإن العلاقات الملتبسة بين ترامب وبوتين لم تسفر عن تحالف متين. وبانتهاء عهده، لم يُحدث بايدن تحسناً ملحوظاً في العلاقات مع الصين، بل تدهورت العلاقات مع روسيا إلى أدنى مستوياتها خصوصاً بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. هذه الديناميكيات ساعدت على تقوية الروابط بين روسيا والصين، حيث وجدت الأخيرة في الغزو الروسي فرصة لإظهار دعمها لبوتين، مما زاد من التقارب بين البلدين.
مع الزيادة في المناورات العسكرية المشتركة والتكامل الاقتصادي، يبدو أن روسيا والصين تتجهان نحو تحالف استراتيجي قد يمكن أن يعيد تشكيل الأمن الدولي. هذا التقارب يتضح بشكل أكبر في الظروف التي تعمل فيها كل من موسكو وبكين على تعزيز استقلالهما الاقتصادي والسياسي في مواجهة الضغوط الغربية وخاصة الأمريكية. يتمثل هذا التحدي بالنسبة للولايات المتحدة في كيفية مواجهة تحالف يمكن أن يقوض نفوذها في مناطق متعددة من العالم، خصوصاً في آسيا وأوروبا الشرقية.
الموقف الأمريكي، تحت قيادة بايدن، يعكس إدراكاً للتحديات الجديدة التي يطرحها هذا التحالف. حيث يسعى بايدن لتعزيز الروابط مع حلفاء الناتو وشركاء آخرين في آسيا لموازنة النفوذ الصيني والروسي. تُظهر هذه الجهود تصميماً أمريكياً على استمرار لعب دور القوة العظمى المهيمنة، لكنها تواجه تحديات بسبب التوجهات المتناقضة والمصالح المتباينة بين دول الحلف.
أما من الناحية العسكرية، فإن التعاون المتزايد بين روسيا والصين يُعد مؤشراً على استعدادهما لتوحيد الجهود في أي مواجهة مستقبلية قد تنشأ مع الولايات المتحدة أو حلفائها. هذا التحالف لا يعتبر فقط تقارباً دبلوماسياً واقتصادياً بل يمتد ليشمل التعاون العسكري الذي قد ينتج عنه تحديات جديدة للأمن الدولي.
في ضوء هذه التطورات، تظل الولايات المتحدة في حالة ترقب، حيث تحاول استشراف خطوات هذا التحالف وتأثيراته على الاستقرار العالمي. وفي هذا السياق، يمكن اعتبار الوضع الراهن بمثابة "حرب فاترة" حيث لا توجد مواجهة مباشرة ولكن التحديات والاستعدادات مستمرة. تتطلب هذه الحرب فاترة مراقبة دقيقة وتخطيطاً استراتيجياً دقيقاً من جميع الأطراف، خاصةً مع احتمال تغيير التحالفات والأولويات في أي وقت.
يشكل هذا السيناريو اختباراً للدبلوماسية العالمية، حيث تحتاج الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى التعامل بحكمة مع التحالف المتنامي بين روسيا والصين. لا شك أن التوترات المتصاعدة والمنافسة في مجالات الأمن القومي، التكنولوجيا، والتجارة تستلزم مقاربة متعددة الجوانب تركز ليس فقط على العرض العسكري والاقتصادي، وإنما أيضاً على التعاون والحوار الدولي.
في ظل هذه الظروف، تبرز أهمية الدبلوماسية في منع التصعيد وإدارة التوترات. يجب على الولايات المتحدة استكشاف سبل التفاوض والتواصل مع كل من روسيا والصين للحد من السباق نحو التسلح وتجنب الأزمات الدولية. من جانبها، يجب على الصين وروسيا أن تقيما مدى فائدة التحالف في سياق أوسع يشمل استقرار النظام العالمي وتجنب العزلة الدولية.
ومع ذلك، فإن التحديات لا تزال قائمة. الصين، بتنامي نفوذها الاقتصادي والعسكري، وروسيا، بمواردها الطبيعية الضخمة وقوتها العسكرية، قد تجدان في التحالف الاستراتيجي وسيلة لتحقيق توازن القوى المطلوب ضد الهيمنة الأمريكية. الأمر الذي يتطلب من الولايات المتحدة أن تواصل تعزيز تحالفاتها القائمة واستكشاف فرص جديدة للتعاون الدولي.
أخيراً، الأهمية المتزايدة للعلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف في هذا العالم المعقد تشير إلى أن أي تحركات في سياسة الدول الكبرى يمكن أن تكون لها تأثيرات بعيدة المدى. سواء كان ذلك من خلال التقارب الروسي الصيني أو من خلال استراتيجيات الولايات المتحدة لمواجهة هذا التحالف، فإن النتائج ستحدد ملامح النظام العالمي للعقود القادمة. في هذه الحرب الفاترة، تظل الدبلوماسية والاستراتيجية الحكيمة أهم الأدوات لتجنب تصعيد قد يؤدي إلى عواقب لا يمكن التنبؤ بها.