التحاليل السياسية
عملية "ردع العدوان" التركية في حلب وإدلب: قراءة تحليلية في سياقاتها السياسية والاستراتيجية
بقلم: د. عدنان بوزان
في قلب الحرب السورية المستمرة التي تمزق البلاد منذ أكثر من عقد، تبرز أحداث الشمال الغربي السوري، في ريف حلب وإدلب، لتعيد فتح باب التحليل السياسي حول الاستراتيجيات المتغيرة للأطراف الإقليمية والدولية. عملية "ردع العدوان" التركية، التي أطلقتها أنقرة في هذه المنطقة مؤخراً، قد تبدو في ظاهرها عملية عسكرية تهدف إلى بسط النفوذ التركي ودعم فصائل المعارضة السورية. لكن على المستوى الاستراتيجي والسياسي، تحمل هذه العملية في طياتها مجموعة معقدة من الرسائل السياسية والردود على التحولات الإقليمية والدولية.
تُعدُّ سوريا واحدة من أكثر البقاع في العالم تعقيداً من الناحية الجيوسياسية، حيث تتداخل فيها مصالح القوى الدولية والإقليمية بشكل شديد التعقيد. منذ اندلاع الحرب السورية في عام 2011، تحوَّل هذا البلد إلى ساحة معركة، ليس فقط بين النظام السوري والمعارضة، بل أيضاً بين اللاعبين الإقليميين والدوليين الذين يسعون لتحقيق أهدافهم الخاصة، حيث يحاول كلٌّ منهم رسم مستقبل المنطقة وفقاً لمصالحه. في هذا السياق، تتعدد السيناريوهات العسكرية والسياسية، وتتداخل التحركات الميدانية مع الأبعاد الاستراتيجية الكبرى.
أحد أبرز التطورات التي شهدتها الساحة السورية في الآونة الأخيرة هو عملية "ردع العدوان"، التي أطلقتها تركيا في ريف حلب وإدلب. هذه العملية لا تقتصر على كونها خطوة عسكرية محدودة تهدف إلى استعادة السيطرة على مناطق استراتيجية، بل هي تحرك استراتيجي واسع النطاق، تتداخل فيه الأبعاد العسكرية والسياسية والإقليمية. العملية، التي جاءت في توقيت حساس، تزامنت مع مجموعة من التحولات الكبرى في المنطقة، بدءاً من تصعيد الحرب في غزة فلبنان وثم إعلان عن التفاوض وإيقاف الحرب، مروراً بتوتر العلاقات التركية-السورية، وصولاً إلى التغيرات المحتملة في نفوذ القوى الكبرى في سوريا، مثل الولايات المتحدة وروسيا.
إن العملية العسكرية التي تقودها تركيا في هذه المناطق لا تُعدُّ مجرد رد فعل على الهجمات المتكررة من قبل النظام السوري وحلفائه، بل تحمل في طياتها رسائل متعددة، موجهة ليس فقط إلى النظام السوري، بل أيضاً إلى الأطراف الدولية المنخرطة في الصراع السوري. فمن جهة، تمثل العملية ضغطاً على بشار الأسد لدفعه نحو التفاوض مع أنقرة، في خطوة قد تؤدي إلى تغييرات جوهرية في العلاقات التركية-السورية. ومن جهة أخرى، تسعى تركيا إلى توجيه رسالة إلى كلٍّ من روسيا وإيران، مفادها أنها القوة الإقليمية الوحيدة القادرة على التحكم في مسار الأحداث في سوريا، وتقديم نفسها كبديل استراتيجي في حال فشل التقارب مع الأسد.
علاوة على ذلك، تهدف العملية العسكرية التركية إلى وضع الأطراف الكوردية، مثل قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، في موقف حرج، ما يفتح الباب أمام تحولات جديدة في التوازنات السياسية والعسكرية في الشمال السوري. كما يبرز سيناريو محتمل لتسوية سياسية تشمل توحيد مناطق الشمال السوري تحت إشراف تركي، وهو ما قد يعيد تشكيل النظام الإقليمي في سوريا بشكل يضمن لتركيا مصالحها الأمنية والاستراتيجية.
إن فهم عملية "ردع العدوان" يتطلب النظر إلى هذه المعركة من زوايا متعددة. فهي ليست مجرد مواجهة عسكرية، بل تحمل أبعاداً سياسية واستراتيجية عميقة. فما الذي تعنيه هذه العملية بالنسبة لمستقبل سوريا؟ وكيف ستؤثر على العلاقات بين تركيا وسوريا من جهة، وتركيا وروسيا وإيران من جهة أخرى؟ وهل يمكن أن تفتح هذه العملية الباب أمام تحولات كبرى في خارطة النفوذ في الشرق الأوسط؟ هذه التساؤلات تمثل جوهر التحليل السياسي، الذي يستدعي تفكيراً معمقاً يتجاوز السطحية العسكرية المباشرة، وصولاً إلى فهم أعمق للأهداف بعيدة المدى التي تحرك تركيا والأطراف الأخرى المنخرطة في هذا النزاع.
إن عملية "ردع العدوان" التركية في الشمال الغربي السوري تأتي في سياق تطورات ميدانية وسياسية معقدة تتداخل فيها مختلف المصالح الإقليمية والدولية. منذ بداية الحرب السورية، كانت تركيا أحد أبرز اللاعبين الإقليميين الذين كان لهم دور كبير في رسم ملامح الأحداث. ففي حين سعى النظام السوري إلى استعادة كامل الأراضي السورية، سعت تركيا إلى تأمين مصالحها الخاصة من خلال دعم المعارضة السورية في الشمال وفرض وجودها العسكري في مناطق حيوية، لا سيما في إدلب وريف حلب.
لكن مع مرور الوقت، تغيرت معادلة القوى في سوريا بشكل لافت، خاصة بعد التدخل العسكري الروسي في 2015 الذي دعم النظام السوري وحقق له انتصارات ميدانية كبيرة. هذا التدخل قلب الموازين وأدى إلى توتر العلاقات بين تركيا وروسيا، لكن بمرور الوقت، تمكنت أنقرة وموسكو من التوصل إلى تفاهمات سياسية تضمن لكل طرف مصالحه في سوريا. ورغم ذلك، لم تفقد تركيا أهدافها الاستراتيجية التي كانت تسعى لتحقيقها في مناطق الشمال، والتي تشمل منع تشكيل كيان كوردي مستقل على حدودها، فضلاً عن تأمين نفوذها السياسي والعسكري في مناطق تواجد المعارضة.
الآن، ومع استمرار تعقيدات المشهد السوري، تأتي عملية "ردع العدوان" كخطوة محسوبة من قبل تركيا لتوجيه عدة رسائل في وقت واحد. الرسالة الأولى هي إلى النظام السوري، مفادها أن تركيا لا تزال قادرة على التأثير في الشمال السوري، وأنها لن تتوانى عن استخدام قوتها العسكرية لتحقيق أهدافها. هذه الرسالة تأتي في وقت حساس، حيث تسعى تركيا إلى دفع الأسد نحو التفاوض والمصالحة، خاصة بعد فشل محادثات أستانة الأخيرة في تحقيق تقدم ملموس. فبعد سنوات من الحرب، أصبحت أنقرة تدرك أن أحد أبرز سبل تعزيز نفوذها في سوريا هو التوصل إلى تسوية مع النظام السوري تسمح لها بالحفاظ على مصالحها الأمنية والسياسية.
في السياق ذاته، فإن الضغط التركي على الأسد يهدف إلى دفعه نحو إعلان الحرب على قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وهي القوات التي تعتبرها أنقرة امتداداً لحزب العمال الكردستاني (PKK) الذي تصنفه منظمة إرهابية. وهذا بدوره قد يساهم في تحسين العلاقات التركية مع النظام السوري، خاصة إذا نجحت أنقرة في إقناع دمشق بالتحرك ضد قسد، وهو ما سيعزز موقف تركيا في شمال سوريا ويُسهم في قطع الطريق على أي طموحات كوردية قد تهدد أمنها القومي.
- التصعيد الإسرائيلي وحرب غزة:
من ناحية أخرى، فإن التصعيد الأخير في غزة والحرب الإسرائيلية ضد حماس تعطي تركيا فرصة استراتيجية لزيادة نفوذها في المنطقة. تركيا، التي طالما سعت إلى تحدي الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة، تسعى من خلال عملية "ردع العدوان" إلى إرسال رسالة إلى الأطراف الإقليمية والدولية بأن أنقرة جاهزة لملء الفراغ الذي قد ينشأ في المنطقة نتيجة التصعيد الإسرائيلي ضد الأسد. من خلال هذه العملية، تسعى تركيا إلى إثبات قدرتها على التأثير في مستقبل سوريا والمنطقة بشكل عام، وإظهار استعدادها لمواجهة النفوذ الإيراني في سوريا.
ورغم هذا التصعيد التركي، تبقى روسيا في وضع حساس، إذ أن العملية العسكرية التركية قد تضع موسكو أمام خيار صعب: إما الضغط على النظام السوري للقبول بالتحركات التركية وإعادة التفاوض معها، أو التمسك بالتحالف مع دمشق والعمل على إحباط المساعي التركية في المنطقة. وفي كلتا الحالتين، تكون روسيا مضطرة إلى أخذ التفاعلات التركية بعين الاعتبار، خاصة مع استمرار تزايد النفوذ التركي في الشمال السوري.
- إعادة توزيع القوى:
في ظل هذه المعادلة المعقدة، تعمل تركيا على إعادة توزيع القوى في شمال سوريا من خلال دعم فصائل المعارضة المسلحة، خصوصاً تلك التي تلتزم بالسياسات التركية، وتصفية الفصائل التي ترفض الانصياع لتوجيهاتها. فتركيا تعلم جيداً أن سيطرتها على هذه الفصائل وإعادة تشكيلها بما يتناسب مع مصالحها سيكون له دور محوري في بناء مستقبل سوريا السياسي، حيث يمكن أن تضمن لتركيا دوراً محورياً في أي تسوية سياسية مقبلة. إضافة إلى ذلك، فإن استغلال تركيا لهذه الفرصة التاريخية يشير إلى أنها تسعى لإضعاف النفوذ الإيراني في المنطقة، بل إنها قد تطمح إلى تحجيم دور حزب الله والميليشيات الإيرانية التي تؤثر بشكل كبير على مجريات الأحداث في سوريا.
- سيناريوهات المستقبل:
ومع ذلك، تبقى هناك سيناريوهات متعددة حول كيفية تطور الأمور في سوريا بعد هذه العملية العسكرية. السيناريو الأول هو أن تظل تركيا اللاعب الرئيسي في الشمال السوري، محققة مصالحها الأمنية والسياسية، مستغلة تراجع النفوذ الإيراني والتقارب الروسي مع النظام السوري. في هذا السياق، يمكن أن يتم تكريس الوضع الراهن في المناطق الحدودية، مع بقاء العلاقة بين تركيا والنظام السوري مشروطة بتحقيق مصالح معينة.
أما السيناريو البديل، والذي رغم كونه بعيد المنال إلا أنه لا يزال قائماً، فيتمثل في إمكانية توحيد شمال سوريا تحت إدارة واحدة تحت إشراف تركي وأمريكي. هذا التوحيد قد يشمل مناطق نفوذ كل من تركيا وأمريكا في شمال سوريا، ويسعى إلى تحقيق تسوية شاملة تشمل المعارضة وقسد والإدارة الذاتية. هذا السيناريو قد يصبح واقعاً في حال فشل سياسة التقارب التركي مع النظام السوري، أو في حال استمرار تعثر الحوارات بين قسد ودمشق.
بحسب رؤيتي السياسية لهذه السيناريوهات:
في سياق التطورات الإقليمية والدولية الراهنة، تبدو التحركات التركية الأخيرة في شمال سوريا، تحت غطاء عملية "ردع العدوان"، أكبر من مجرد عملية عسكرية تقليدية. هذه التحركات تحمل أبعاداً سياسية واستراتيجية عميقة تعكس ملامح لعبة سياسية معقدة بين تركيا والولايات المتحدة، تهدف إلى تحقيق أهداف استراتيجية تتجاوز الساحة السورية، لتشمل مناطق أخرى مثل أوكرانيا، ولبنان، وغزة.
- الضغط على روسيا وإعادة ترتيب خارطة المصالح في أوكرانيا:
من الواضح أن تركيا، بالتنسيق مع الولايات المتحدة، تسعى لاستغلال الساحة السورية كوسيلة ضغط إضافية على روسيا. هذا الضغط لا يستهدف النظام السوري مباشرة، بل يُستخدم كأداة لإثقال كاهل روسيا وإجبارها على إعادة ترتيب أولوياتها في أوكرانيا وسوريا على حد سواء. التصعيد التركي في الشمال السوري يبعث برسالة ضمنية إلى موسكو مفادها أن أنقرة تمتلك القدرة على تحريك ملفات إقليمية حساسة قد تؤثر على نفوذ روسيا، مما يجعلها أمام خيارات معقدة قد تغير ديناميكيات الصراع في أوكرانيا.
- إعادة ترتيب التوازنات في جنوب سوريا ولبنان:
في سياق آخر، يُرجَّح وجود خطط أوسع ترتبط بمحاولات تهدئة الأوضاع في لبنان وتسوية النزاع في غزة كجزء من صفقة إقليمية شاملة. هذه الخطط قد تمهد لتصعيد محتمل في جنوب سوريا، حيث يُعتقد أن إسرائيل، بدعم إقليمي ودولي، تسعى إلى تقليص النفوذ الإيراني في الجنوب السوري وربما فصله عن دمشق. في هذا السياق، تأتي التحركات التركية في شمال سوريا كخطوة استباقية لإعادة رسم حدود "الدويلة السنية" المحتملة في الشمال، وطرد الميليشيات الإيرانية والنظام السوري من مناطق مثل حلب، بما يخدم أهداف أنقرة الاستراتيجية.
- الضغط على شرق الفرات وإعادة تشكيل المعادلة الكوردية:
على صعيد آخر، تهدف تركيا إلى استخدام هذه العمليات للضغط على الأطراف الكوردية في شرق الفرات، لإجبارها على فك الارتباط مع حزب العمال الكردستاني (PKK) وحل حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD). السيناريو الأكثر ترجيحاً يتضمن إدخال قوات "بيشمركة روج" إلى المنطقة كبديل، مع توطينها على الحدود التركية-السورية. هذه الخطوة تُحقق لأنقرة مكاسب أمنية مباشرة، وفي الوقت ذاته تُساهم في تهدئة التوترات مع واشنطن التي تسعى لإيجاد تسوية شاملة في شمال وشرق سوريا تحفظ توازن مصالحها ومصالح حلفائها.
- الأفق الأوسع للمشروع التركي:
تبدو التحركات التركية الأخيرة جزءاً من مشروع استراتيجي أوسع، يهدف إلى إعادة رسم خارطة النفوذ في شمال سوريا بما يضمن مصالح تركيا الإقليمية والدولية. المشروع التركي لا يتوقف عند تعزيز السيطرة في مناطق مثل منبج، بل يتعدى ذلك إلى فرض وقائع جديدة قد تؤسس لإعادة تشكيل الخارطة السياسية لسوريا على أسس إثنية وطائفية جديدة.
خلاصة، تشير التطورات في شمال سوريا إلى أن الصراع الحالي يتجاوز كونه نزاعاً عسكرياً إلى كونه صراعاً على النفوذ والتحالفات الإقليمية والدولية. اللعبة السياسية بين تركيا والولايات المتحدة تهدف إلى إعادة توزيع الأدوار في المنطقة بما يخدم مصالحهما المشتركة، خصوصاً في ظل التحديات الكبرى التي تفرضها التحولات الراهنة في أوكرانيا، ولبنان، وجنوب سوريا. هذا التشابك يعيد سوريا إلى الواجهة كساحة رئيسية لصراع النفوذ الدولي، ويؤكد أن الأزمات الإقليمية باتت أكثر ترابطاً وتعقيداً.
الخاتمة:
إن عملية "ردع العدوان" التركية هي خطوة تتجاوز حدود العمليات العسكرية التقليدية. هي بمثابة مرحلة جديدة في الصراع السوري، تعكس التحولات الكبيرة في السياسات الإقليمية والدولية. من خلال هذه العملية، تسعى تركيا إلى إعادة تشكيل الشمال السوري بما يتناسب مع مصالحها الأمنية والسياسية، وتوجيه رسائل إلى كل من روسيا والنظام السوري بأن أنقرة ستكون اللاعب الإقليمي الأساسي في تحديد مستقبل المنطقة. ومع تعقيد المعادلات الإقليمية وتداخل المصالح الدولية، تبقى الساحة السورية عرضة لمزيد من التغيرات الاستراتيجية التي قد تعيد رسم خريطة المنطقة في المستقبل القريب.