كلمة اليوم: الواقع السياسي الراهن: رؤية فلسفية نحو التغيير والتقدم
بقلم: د. عدنان بوزان في ظل الأزمات المتلاحقة التي تعصف بمنطقة...
كلمة اليوم: صمت الأوطان وثورة الأقلام: بين الركوع والمقاومة
بقلم: د. عدنان بوزان لو أننا أُخرسنا حقاً، لو أن أصواتنا سُكتت...
كلمة اليوم: ما وراء الأنقاض: كيف تبني الشعوب مستقبلها؟
بقلم: د. عدنان بوزان أيها الشعوب المنهكة في الشرق الأوسط، إن أصوات...
كلمة اليوم : القراءة: جسر نحو الفهم ومنارة للتحول الإنساني
بقلم: د. عدنان بوزان
القراءة، ذلك الفعل الذي يتسلل بصمت إلى عقول الراكدين ليوقظها، ويهز أرواح النائمين ليحييها. هي بمثابة الشرارة التي تُضاء منها مصابيح الفكر في زمن يغلب عليه ظلام الجهل. لطالما كانت القراءة أداة العلماء والفلاسفة والمثقفين، حيث يمسكون بها كسيف قاطع يفصل بين الحقيقة والزيف، بين العلم والخرافة. ولكن، في يد الجهلاء، تصير القراءة قنبلة موقوتة قابلة لأن تنفجر بمعلومات مغلوطة وتفسيرات هدامة.
في تأمل النص القرآني "اقرأ باسم ربك الذي خلق"، نجد دعوة عميقة لاستخدام القراءة كجسر يعبر بنا إلى بر الأمان، بر الوعي والمعرفة. لم يكن اختيار القراءة في أول الوحي إلا تأكيداً على أهمية العلم والتعلم كأساس يُبنى عليه مجتمع مستنير، قائم على فهم الكون والحياة والإنسان.
القراءة في فلسفة الأديان ليست مجرد فعل منفصل، بل هي التزام بالبحث والتقصي عن الحقيقة. إنها تعطي الفرد قدرة على التفكير النقدي، القدرة على التساؤل والاستقصاء. هذا ما تعلمناه من العقول النيرة التي كتبت وناقشت وفكرت. لقد أودعوا في كتبهم خلاصة تجاربهم وأفكارهم، ولنا في كل قراءة فرصة لاستلهام تلك الأفكار وتحويلها إلى أعمال تثري حياتنا وتبني مجتمعاتنا.
في كل صفحة نقلبها، يطلب منا الكتاب أن نتفكر، أن نتحرى الدقة في الفهم، وأن نسعى للمعرفة بشغف. القراءة تمنحنا القوة لا لنسيطر أو نهيمن، بل لنفهم العالم ونسهم في تحسينه.
وهكذا، يتبدى أن القراءة ليست مجرد تكرار للألفاظ أو استهلاك للمعلومات، بل هي عملية تفاعلية تطلب منا النظر بعمق في ما وراء النصوص، لاستشراف أفق جديد للفكر الإنساني، متجذر في الماضي وممتد نحو المستقبل.
ومن هنا، تتجلى القراءة كفعل تحرري بالغ الأهمية. إنها ليست مجرد وسيلة لنقل المعرفة، بل هي تمكين للعقل ليكون مستقلاً، ناقداً، قادراً على بناء مفاهيمه ونظرياته الخاصة. القراءة تفتح أمامنا الآفاق للتفكير في الأسئلة الكبيرة: ما الحياة؟ ما العدالة؟ ما الخير والشر؟ وتلقي علينا مسؤولية البحث عن إجابات لهذه الأسئلة في ظلال الكلمات التي خطتها الأيدي على مر العصور.
القراءة بذلك تصبح دعوة للانخراط في حوار ممتد عبر الزمان والمكان، حوار يربط بيننا وبين العقول التي سبقتنا وتلك التي ستتبعنا. إنها تشجع على التواصل الفكري والروحي مع الثقافات والحضارات، مما يؤدي إلى فهم أعمق للتنوع الإنساني وتقديره.
وبينما نقرأ، يجب أن نكون واعين لكيفية تأثير الكتابات في تشكيل أفكارنا ومعتقداتنا. الكتب لها القدرة على تشكيل مجتمعات كاملة، للأفضل أو للأسوأ. هذا هو سبب كون القراءة قنبلة موقوتة في أيدي الجهلاء؛ لأن تفسيرات خاطئة أو مغلوطة يمكن أن تقود إلى سوء فهم وتعصب يؤدي إلى الفرقة والنزاع. لذا، فإن القراءة المستنيرة تتطلب تمهلاً وتأملاً، وتتطلب منا أن نكون مستعدين للتحدي والتساؤل حتى عن النصوص التي نعتز بها.
إن القراءة، في جوهرها، هي عملية استكشافية تقودنا إلى معرفة الذات والآخر. من خلال الكلمات، نكتشف العالم، ونتعلم كيف نكون أفراداً مسؤولين ومدركين لأثرنا في هذا العالم. لذلك، دعونا نقرأ لنفهم، لنحلم، ولنبني. دعونا نجعل القراءة جسراً لا يعبر به إلا من يسعى للحقيقة بصدق ويرنو إلى مستقبل يسوده العلم والوعي والتسامح.
القراءة، بأبعادها الفلسفية والروحانية، تقدم لنا المفتاح لفهم التعقيدات الإنسانية وتجاوزها. من خلال النصوص، نستطيع رؤية العالم من منظور الآخرين، مما يعزز التعاطف والتفهم بين البشر مهما اختلفت أصولهم أو أفكارهم. هذه الرحلة الاستكشافية عبر الكلمات تجبرنا على مواجهة معتقداتنا الخاصة، تدفعنا للتساؤل عن أسسها وصحتها، وتحثنا على التفكير في الأخلاقيات والقيم التي نعيش من أجلها.
عندما نتعمق في قراءة الكتب التي تعالج فلسفات مختلفة، أو حتى تلك التي تروي تجارب إنسانية عبر الزمان والمكان، نبدأ بفهم أن كل فكرة لها سياقها، وأن كل حقيقة تأتي بأوجه متعددة. هذه الفهم يعلمنا التواضع الفكري، يذكرنا بأننا، مهما بلغت معارفنا، لا زلنا نقطة في بحر الوجود.
وفي هذا السياق، تأتي القراءة كنشاط ثوري، تحرر العقل من قيود الجهل والتحيز. هي تشعل فينا الرغبة في التغيير والتحسين، ليس فقط لأنفسنا، بل للمجتمع بأكمله. القراءة تصبح سلاحاً ضد الاستبداد والطغيان، لأنها تنير العقول وتمنح الأفراد القدرة على التفكير المستقل والنقد البناء.
إن مطالبة النصوص الدينية والفلسفية بأن "نقرأ" ليست دعوة لمجرد التلقي السلبي للمعلومات، بل هي دعوة للمشاركة الفاعلة في تفسير العالم وإعادة تشكيله. كلمة "اقرأ" تحمل في طياتها التحدي لكل قارئ أن يصبح فاعلاً في سرد قصته الخاصة وفي تشكيل مستقبله.
وهكذا، فإن القراءة تتجاوز كونها مجرد اكتساب للمعرفة إلى أن تصبح تجربة تحولية تمس كينونتنا الأساسية. من خلالها، نحن لا نستكشف فقط ما كتبه الآخرون، بل نكتشف أنفسنا من جديد. نجد في الصفحات المطوية أجزاء من أرواحنا، أفكارنا، وأحلامنا، ونتعلم كيف نحترم التنوع ونحتفي بالتفرد.
فلنقرأ إذن، ليس فقط لنستقي المعرفة، ولكن لننمي قدرتنا على التعاطف والفهم، ولنوسع آفاق تفكيرنا ونحرر أنفسنا من قيود الجهل والتعصب. لنجعل من القراءة جسراً يربط بين الثقافات والأجيال، وأداة تساعد على تجسير الفجوات ومعالجة الصراعات.
القراءة تمنحنا الفرصة للعيش بألف حياة قبل موتنا. هي تفتح أمامنا الأبواب لتجربة حيوات لم نعشها، لاستكشاف عوالم لم نزرها، ولفهم أفكار لم نفكر بها من قبل. كل كتاب نقرأه يُعلمنا شيئاً جديداً، يحدث تغييراً فينا، ويعزز من قدرتنا على التحمل والتكيف. وعبر القراءة، نتعلم كيفية الاستجابة للتحديات بطرق إبداعية وفعالة. نتعلم البحث عن حلول بديلة، وتطوير منظورات جديدة. كلما قرأنا أكثر، تزداد قدرتنا على الربط بين المفاهيم المختلفة والرؤى المتنوعة، مما يساعد في بناء فهم أكثر شمولية وتكاملاً للعالم من حولنا.
لنقرأ، لأن القراءة تعلمنا الصبر والتأمل. في عصر يتميز بالسرعة والتسارع، تمنحنا القراءة مساحة للتوقف والتفكير. إنها تدعونا لأخذ استراحة من ضغوط الحياة اليومية والانغماس في عالم يتسم بالتأني والعمق.
وأخيراً، فإن القراءة تزرع فينا بذور التغيير الاجتماعي والشخصي. من خلال التعرف على قصص النضال والتحدي، الفشل والنجاح، نتعلم كيف نكون أفراداً أفضل، كيف نعمل معاً من أجل مجتمع أكثر عدلاً وتعاطفاً. نتعلم كيف نقف في وجه الظلم، وكيف ندافع عن قيمنا بشجاعة وإصرار.
لذا، دعونا نعتنق القراءة كأسلوب حياة، كالهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نشربه. ففي كل كتاب نفتحه، وفي كل صفحة نقلبها، نحن نخلق عالماً أفضل لأنفسنا وللأجيال القادمة.