كلمة اليوم: الواقع السياسي الراهن: رؤية فلسفية نحو التغيير والتقدم
بقلم: د. عدنان بوزان في ظل الأزمات المتلاحقة التي تعصف بمنطقة...
كلمة اليوم: صمت الأوطان وثورة الأقلام: بين الركوع والمقاومة
بقلم: د. عدنان بوزان لو أننا أُخرسنا حقاً، لو أن أصواتنا سُكتت...
كلمة اليوم: ما وراء الأنقاض: كيف تبني الشعوب مستقبلها؟
بقلم: د. عدنان بوزان أيها الشعوب المنهكة في الشرق الأوسط، إن أصوات...
كلمة اليوم: الإبداع في ظلال النسيان: قصة الفقر والإهمال في حياة المبدعين الكورد
بقلم: د. عدنان بوزان
في كل المجتمعات، يُعتبر المبدعون والمفكرين عماد التطور والتقدم، إذ ينسجون من أفكارهم وأعمالهم نسيج الهوية الثقافية والفكرية لأممهم. هؤلاء هم من يدفعون عجلة المجتمع نحو الأمام، يحفزون الوعي، ويبنون جسوراً بين الماضي والمستقبل. ولكن، في المجتمع الكوردي، تتبدل الصورة بشكل مأساوي؛ فالمبدعون والمفكرين، الذين ينبغي أن يكونوا محل تقدير واحتفاء، غالباً ما يجدون أنفسهم منبوذين في حياتهم، يكافحون من أجل الاعتراف والدعم، بينما تتاجر الطبقات السياسية والثقافية بأفكارهم بعد وفاتهم.
في الثقافات عبر العصور والأمم، تكررت مأساة الفنانين والمفكرين الذين عاشوا حياة محفوفة بالفقر والإهمال، بينما لم تُقدر مواهبهم حق قدرها إلا بعد رحيلهم. هذه الظاهرة ليست بالجديدة، ولكنها تحمل وقعاً خاصاً في المجتمع الكوردي الذي شهد تجاهلاً واضحاً لأبرز علمائه وفنانيه وأدبائه ممن خدموا قضيتهم بإخلاص، ولكنهم عانوا من نقص شديد في الدعم الأخلاقي والمادي خلال حياتهم.
في هذا السياق، تكشف قصة الفقر والإهمال التي عاشها كبار المبدعين الكورد، مثل الشاعر جكرخوين والفنان محمد شيخو ومحمد علي شاكر وغيرهم قائمة طويلة، عن غياب مؤلم للعدالة الاجتماعية والاعتراف الثقافي في حياة هؤلاء العظماء. ومن هنا، يبرز السؤال المحوري: كيف يمكن لمجتمع أن يتقدم ويزدهر إذا لم يعتنِ بمن يبنون جدرانه الثقافية والفكرية؟
بينما يستمر هذا النقاش، من الضروري التأمل في كيفية دعم المبدعين في المجتمعات، وليس فقط من خلال التكريم بعد الممات، بل بتوفير شبكة دعم مادية ومعنوية طوال حياتهم. فمن العدل والضرورة أن يعيش المبدعون حياة تليق بإسهاماتهم القيمة لمجتمعهم.
أمثال الشاعر جكرخوين والفنان محمد شيخو، اللذان استطاعا أن ينقشا بأقلامهما وفنهما حكايات الألم والأمل، لم ينالوا إلا القليل من الاحترام والتقدير في حياتهما. ويبدو أن المجتمع الكوردي، وبالأخص الطبقة السياسية التي تدعي تمثيله، قد فشلت في تقديم العون لهذه الأصوات الناطقة بالحق، بينما لم تتوانى في استغلال أسمائهم بعد وفاتهم لتعزيز مكانتها السياسية والاجتماعية.
المفارقة الأليمة هي أنه بعد مماتهم، قامت الدنيا ولم تقعد في تشييع جنازاتهم وتمجيدهم، وهو ما يُبرز الفجوة بين الاعتراف الحقيقي بقيمة الإبداع والاستثمار الظاهري فيه. يُظهر هذا التناقض كيف أن القيم الثقافية والإبداعية يمكن أن تُستغل بشكل أداتي بدلاً من أن تُعزز كجزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي.
من الضروري الآن، أكثر من أي وقت مضى، أن تُعاد النظر في كيفية دعم المبدعين في المجتمعات. ليس فقط من خلال التكريم بعد الممات، ولكن بتوفير شبكة دعم مادية ومعنوية طوال حياتهم. تشكيل صناديق دعم الفنانين والأدباء، وتعزيز البرامج الثقافية التي توفر لهم منبراً ورعاية، وضمان الاعتراف بمساهماتهم بشكل مستمر، كلها خطوات يمكن أن تساهم في ضمان ألا يعاني المبدعون من الإهمال أو الفقر في ظل مجتمع يستفيد من إبداعاتهم. هذه المبادرات يجب أن تأتي ليس فقط من الأفراد أو المؤسسات الثقافية، بل أيضاً من السلطات الحاكمة والأحزاب السياسية التي تدعي الرعاية والاهتمام بالشأن الثقافي.
علاوة على ذلك، يتطلب الأمر تغييراً في النظرة العامة إلى الفن والأدب، لا سيما في المجتمعات التي تعاني من الصراعات والأزمات. في هذه المجتمعات، غالباً ما يُنظر إلى الإبداع كترف ثانوي أو حتى كمسألة غير ضرورية، بينما يجب أن يُعتبر كمكون أساسي للنهوض الاجتماعي والثقافي. الفنانون والأدباء ليسوا مجرد رواة للحكايات، بل هم صنّاع للوعي ومؤثرون في الرأي العام، ويمتلكون القدرة على إحداث تغيير حقيقي وملموس في المجتمع.
من المهم أيضاً أن تقدم الدراسات الأكاديمية والأبحاث تقييمات مستمرة لواقع الفنانين والمفكرين، ليس فقط في الحاضر، بل ومراقبة تطور أوضاعهم عبر الزمن. يجب أن تكون هذه الدراسات أداة للضغط على السلطات لتحسين ظروف الفنانين والمثقفين، وللتأكيد على أهمية دورهم في المجتمع.
في ختام هذا النقاش، ينبغي التذكير بأن معالجة هذه القضايا ليست مجرد مسألة حقوقية أو اجتماعية فقط، بل هي ضرورة حضارية تكفل استمرارية التطور الثقافي والفكري. يجب أن تتحمل المجتمعات، خاصة القيادات السياسية والثقافية، مسؤولية حماية ودعم المبدعين والمفكرين خلال حياتهم، وليس فقط تكريمهم بعد وفاتهم. كما يجب أن تصبح أبيات الشعر عن الفقر والفقير التي تصف معاناة المبدعين درساً يحفز على العمل وليس مجرد كلمات تُردد في الجنازات.