تحولات النظام السوري: بين الثورة والاستقرار الإقليمي

بقلم: د. عدنان بوزان

في متاهات السياسة الشرق أوسطية، تبرز القضية الفلسطينية كإحدى الركائز الحيوية التي بني عليها نظام البعث في سورية، حيث أصبحت لا تقتصر فقط على تلبية مطالب الفصائل الفلسطينية بل تشكلت كمكون أساسي يعتاش عليه ويتغذى منه. ففي سياق ذلك، تجسّدت مواقف سورية بأطروحات ذات سقف مرتفع، تتخطى في بعض الأحيان تطلعات الفصائل الفلسطينية ذاتها. وكانت وسائل الإعلام الرسمية السورية تكرس جهودها في تكرار عناوين القضية ودعم حقوق الشعب الفلسطيني، مستفيدة من قرب سورية الجغرافي من موقع النزاع، مما جعل النظام السوري جزءاً لا يتجزأ من سيناريوهات الحل أو الصراع.

تحت ذلك السياق الإقليمي، استغلت سورية موقعها لتصبح مشاركاً إجبارياً في سيناريوهات الحل، سواء كانت ذلك جزءاً من ركائز السلام أو الحرب. وبمثابة الوصي الإقليمي، حاول النظام في سورية أن يكون له الكلمة الفصل في قرارات منظمة التحرير الفلسطينية، التي اعتبرها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وذلك بفضل قربها من مكان الحدث.

ومن هنا، شدد النظام السوري على توجيه الأحكام الدبلوماسية وأحياناً بالقوة، بهدف فرض هيمنته على قرارات المنظمة وتوجيه سياستها. ورغم نجاحات بعض الأحيان، إلا أنه فشل في مواجهة بعض التحديات، حيث أصبحت قيادة المنظمة تعطي وتمنع بحسب مصلحتها الخاصة. استند النظام في سورية إلى سياسات الخداع لإشعال الصراعات داخل المنظمة، كما حدث بعد حرب لبنان عام 1982، حيث شجع قادة حركة فتح على الانشقاق وتأسيس "فتح الانتفاضة". كما ساهم في تأسيس منظمات فلسطينية جديدة وقادة من صنعه، وحاول توظيفها ضمن إطار العمل الفلسطيني، إذ أنشأ منظمة قوات العاصفة.

وفي سعيه للحفاظ على تأثيره، لجأ النظام السوري إلى اللعب بالعلاقات مع القائد التاريخي لمنظمة التحرير ياسر عرفات، الذي كان يعاني من علاقات متقلبة وغير مستقرة مع النظام طوال فترة حكم حافظ الأسد. تلك السياسات الرافضة للتحدي والمحاولات المستميتة لفرض السيطرة على القضية الفلسطينية في السياق الإقليمي، رسمت صورة لا تُنسى لتداخل العلاقات السياسية والأثر الكبير الذي تمتعت به القضية الفلسطينية في تكوين نظام البعث في سورية.

دور بشار الأسد في القضية الفلسطينية:

بين الدبلوماسية والتدخل العسكري تشكلت القضية الفلسطينية على مر العقود إحدى المحاور الأساسية للسياسة السورية، حيث استفاد نظام البعث بقيادة حافظ الأسد منها كمصدر للدعم الشعبي والدور الإقليمي. كانت وسائل الإعلام الرسمية السورية تؤكد باستمرار على أهمية القضية الفلسطينية وتحقيق حقوق الشعب الفلسطيني. وكان لقرب سورية من مكان الحدث دور كبير في جعلها جزءاً لا يتجزأ من سيناريوهات السلام والحرب في المنطقة.

من هذا المنطلق، كان لدى بشار الأسد دور محوري في تحديد مواقف سوريا إزاء القضية الفلسطينية. حاول النظام أن يكون له كلمة فصل في قرارات منظمة التحرير، حيث أراد أن يكون الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. وعلى الرغم من أن النظام نجح في بعض الأحيان في تحقيق ذلك، إلا أنه واجه مقاومة من قادة المنظمة الذين رفضوا تسليم النظام السوري مفاتيح صنع القرار الفلسطيني.

استخدم بشار الأسد خلال فترة حكمه سياسات متنوعة للتأثير في الشؤون الفلسطينية. في بعض الأحيان، لجأ إلى الدبلوماسية لضمان تأثيره في منظمة التحرير، وفي أحيان أخرى لجأ إلى التدخل العسكري غير المباشر عبر دعم وتحريك فصائل فلسطينية موالية له.

وفي سعيه لتحقيق أهدافه، قام بشار الأسد بتكثيف جهوده في زرع الفتن بين قادة المنظمة. قادة في حركة فتح شجعوا على الانشقاق وتأسيس "فتح الانتفاضة"، وهو تحرك تمثل في تحدي للهيمنة السورية.

من الجوانب الأخرى، ساهم بشار الأسد في تشكيل منظمات فلسطينية جديدة حازت على دعمه وتسليحه. وضع قادة من صناعته على رأس هذه المنظمات، وحاول دمجها في مؤسسات العمل الفلسطيني، وذلك بهدف توجيه السياسة الفلسطينية بما يخدم مصالح سوريا.

بالتالي، يظهر دور بشار الأسد في القضية الفلسطينية كمتناقض ومعقد، حيث جمع بين الجهود الدبلوماسية والتدخل العسكري، وبين التعاون والتصدي لقادة المنظمة. وفي ظل التحولات السياسية في المنطقة، يظل الدور السوري في القضية الفلسطينية قضية محورية يتعين فهمها لفهم التطورات الإقليمية الحالية.

التحديات المستقبلية وتأثير بشار الأسد على القضية الفلسطينية:

رغم المحن والتحديات التي واجهها بشار الأسد في سياسته تجاه القضية الفلسطينية، فإن التأثير السوري لا يزال يلقى بظلاله على المنطقة. يبدو أن النظام السوري، بقيادة بشار الأسد، يعتمد على مجموعة متنوعة من السياسات لتحقيق أهدافه الإستراتيجية في القضية الفلسطينية.

في السنوات الأخيرة، شهدت المنطقة تحولات هامة مثل اتفاقات السلام مع إسرائيل وتحولات في العلاقات الإقليمية. يجب على متابعي الشأن السوري متابعة الأثر الذي قد يكون له هذا التحول في استراتيجيات بشار الأسد تجاه القضية الفلسطينية.

قد تكون التحولات في العلاقات مع إسرائيل، بما في ذلك احتمالات إعادة فتح المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، تحدياً كبيراً للنظام السوري. إذ قد يجد بشار الأسد نفسه أمام تحديات جديدة في محاولة تحقيق توازن بين الحفاظ على دعم الشارع العربي والإسلامي لفلسطين، وبين استكشاف فرص لتحسين العلاقات الإقليمية.

إذا استمرت التحولات الإقليمية، قد يجد بشار الأسد نفسه أمام فرص جديدة أو تحديات تستلزم تعديل استراتيجياته. في هذا السياق، يظل دور بشار الأسد في القضية الفلسطينية موضوعاً للمتابعة والتحليل، حيث يبقى له تأثير كبير على مستقبل المنطقة ومستقبل القضية الفلسطينية في ظل التحولات المتسارعة في الشرق الأوسط.

تأثير النظام السوري في لبنان:رحلة بين الوصاية والانسحاب

كان للنظام السوري إلى حد كبير دورٌ نشطٌ ومؤثر على الجبهة اللبنانية، حيث لعب دور الوصي بدرجة عالية على لبنان. هذا الدور كان محورياً في إطار العلاقات السورية-الإيرانية، حيث شكّل النظام السوري وصاياه على لبنان برعاية من إيران، وكان لديه ذراعٌ طويلة في الشؤون اللبنانية.

قُصِرَت ذراع النظام السوري في لبنان إلى حد ما بعد اغتيال رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري من الأراضي اللبنانية. هذا الانسحاب كان نتيجة لضغط دولي وانتفاضة شعبية لبنانية، وكان له تأثيرٌ كبير على ديناميات العلاقات في المنطقة.

خلال تلك الفترة، تمكن النظام السوري من ضبط إيقاع حركة حزب الله في جنوب لبنان. استخدم النظام نفوذه للتأكد من تحكم الحزب في هذه المنطقة، وبالتالي ضبط التوازنات الداخلية. ارتبطت هذه الفترة بتصاعد الأوضاع وتهديدات أمنية، ولكنها شهدت أيضاً تحسيناً في العلاقات بين لبنان وسوريا.

من الجدير بالذكر أن النظام السوري، في ذلك الوقت، كان يصنَّف بشكل حاسم ضمن المجموعة المعادية لإسرائيل. كان يتخذ مواقف قوية تجاه حقوق العرب ويظهر وقوفه إلى جانب القضية الفلسطينية. كان لهذا التحالف القوي مع إيران وحزب الله تأثير كبير على سياسات النظام السوري في المنطقة، وخاصة في مواجهة التحديات الإسرائيلية.

على الرغم من قصر الذراع السورية في لبنان بعد الانسحاب، إلا أن للنظام السوري تأثيراً مستمراً ومعقداً في المشهد اللبناني. تبقى هذه العلاقة موضوعاً للمتابعة والتحليل، حيث تعكس تحولات السياسة الإقليمية وتأثيراتها على العلاقات بين الدول في المنطقة.

النظام السوري بين الحرب والدبلوماسية: استراتيجيات متضاربة في مواجهة إسرائيل وحزب الله

عام 2006، أظهر النظام السوري نفسه بقوة في الحرب بين إسرائيل وحزب الله، وذلك بعد عام من اغتيال رفيق الحريري. كانت هذه الحرب مفصلية للنظام السوري، حيث استخدمها بشار الأسد لترسيخ موقفه في المنطقة وتوجيه رسالة قوية إلى العالم العربي وإسرائيل.

بعد انتهاء الحرب، خرج بشار الأسد في خطاب قوي انتقد فيه قادة عرباً ووصفهم بـ"أنصاف الرجال"، مما أثار استياء وتوتراً في العلاقات بين سوريا والدول العربية الخليجية. هذا الخطاب الصادم كلف النظام سنوات من الدبلوماسية الجادة لإصلاح العلاقات المتدهورة.

رغم أن بشار الأسد سعى إلى تحسين العلاقات مع قادة الخليج، إلا أنه اختار التصعيد في خطابه بغرض تحقيق موقف تصادمي ضد إسرائيل، ودعماً لحزب الله الذي تلقى لوماً كبيراً لإشعال تلك الحرب. في الوقت الذي كان لبنان يعاني اقتصادياً بشدة، اتخذ النظام مواقف متطرفة، يسعى فيها للسيطرة على الفصائل المناهضة لإسرائيل دون الحاجة لتحريك جبهته الخاصة.

النظام السوري، حتى في ذروة قوته وحضوره الإقليمي، فضل اللجوء إلى الدبلوماسية والتأثير في المناطق الأخرى بدلاً من الدخول في صراع مباشر مع إسرائيل. استخدم النظام إستراتيجية الوكلاء، حيث دعم فصائل وحركات معادية لإسرائيل في لبنان وفلسطين، دون اللجوء إلى تحريك جيشه الخاص.

هذه الإستراتيجية أعطت النظام السوري فرصة لتحقيق أهدافه السياسية دون التعرض للتهديد المباشر. ورغم التحسن التدريجي في العلاقات بين سوريا وبعض دول الخليج في الفترة التالية، إلا أن هذا الفصل الدموي في تاريخ المنطقة ترك آثاراً عميقة وتأثيراً مستمراً على السياسة الإقليمية وتظل استراتيجيات النظام السوري محكومة بالتعقيد، حيث يسعى للتأثير في الساحة الإقليمية دون التورط المباشر في الصراعات. ورغم التحسن الدبلوماسي المحدود، يظل تواجد النظام السوري وتأثيره موضوعاً للمتابعة في ظل التحولات المستمرة في المنطقة، وخاصة في ضوء التحولات الجديدة التي تطرأ على الساحة الإقليمية.

تحولات النظام السوري: بين الثورة والتحالفات الجديدة

أصابت الثورة السورية استقرار النظام بشكل بليغ، مما أدى إلى تغيير جذري في عقائده واستراتيجياته السياسية. كانت هذه التحولات تشمل مواقفه التقليدية من منظمات العمل المناهضة لإسرائيل وحتى موقفه المعروف من الدولة الإسرائيلية نفسها.

في سبيل حماية نفسه ومواجهة التحديات الداخلية، لجأ النظام السوري إلى التحالف مع حزب الله، الذي سلمه جبهات قتال كاملة، خاصة في مناطق مثل حمص والجنوب السوري. هذا التحالف أعطى النظام دعماً عسكرياً قوياً وأداة إستراتيجية لمواجهة التحديات المتنوعة.

حزب الله بدوره، جعل معركته المعلنة مع إسرائيل تأتي في صالح مصلحته في الصراع الداخلي السوري. وقد تبادل النظام وحزب الله التأييد والتعاون، حيث أثبت اللبنانيون جدارتهم في معركة حماية نظام الأسد.

مع تصاعد التوترات في غزة وتهديدات بالتصعيد، يظهر تقدير النظام السوري لتحالفاته والتحالفات الإقليمية. وفي تصريحه قبل أشهر مع قناة سكاي نيوز عربية، طرح بشار الأسد نفسه كمحور استقرار في المنطقة، معبراً عن استيائه من حركة حماس، واصفاً موقف قادتها بالغادر. هذا التصريح يكشف عن التحول الواضح في المواقف السورية، حيث أصبح تحقيق الاستقرار والبقاء على السلطة يأخذان الأولوية على حساب التمسك بمواقف التصدي لإسرائيل.

يظهر أن النظام السوري يتفهم الضغوط الإقليمية ويسعى لتثبيت نفسه بأي ثمن. هذا التحول يعكس حسن تقديره للدور المحوري الذي يلعبه في الساحة الإقليمية، وقد يكون له تأثيرات كبيرة على الديناميات الإقليمية ومواجهة التحديات الجديدة التي تشهدها المنطقة.

تواجه النظام السوري تحديات جديدة وتحولات إستراتيجية:

تحولت المواقف والاستراتيجيات السورية إلى آفاق جديدة، حيث يسعى النظام إلى تحقيق استقرار داخلي وضمان بقائه على السلطة. يبدو أن التحالف مع حزب الله أصبح لا غنى عنه لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وخاصةً في ظل الأزمة الاقتصادية المستمرة والتحديات الأمنية.

مع تجدد التوترات في غزة، أظهرت تصريحات بشار الأسد تحولاً ملحوظاً في موقفه تجاه حركة حماس والصراع مع إسرائيل. بينما كان النظام في وقت سابق يعتبر نفسه جزءاً من المحور المقاوم، يتجه الآن نحو تعزيز الاستقرار الداخلي على حساب التورط المباشر في صراعات إقليمية.

تظهر هذه التطورات أيضاً في العلاقات مع إيران وحلفائها، حيث يعتبر النظام السوري الحفاظ على علاقاته معهم أمراً حيوياً للبقاء على قيد الحياة. يبدو أن هناك تفهماً كبيراً من قبل حلفاء الأسد لهذه التحولات، حيث يسعى الجميع إلى تأمين النفوذ والاستقرار في المنطقة.

على الرغم من هذه التحولات، يظل النظام السوري تحت ضغوط الساحة الدولية وتأثيرها على مستقبله. القدرة على التكيف والتحكم في الأوضاع الداخلية والإقليمية ستلعب دوراً حاسماً في تحديد مساره المستقبلي، وقد يكون على النظام السوري تقديم تنازلات أكبر لضمان بقائه في مركز السلطة.

أضف تعليق


كود امني
تحديث

X

تحذير

لا يمكن النسخ!